تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذه هي شروط وضوابط الضرورة الشرعية، والذي يتأمل في مسألتنا هذه يجد أن التداوي بالخمر لا يندرج تحت باب الضرورة الشرعية، فإن أنواع الأدوية غيره كثيرة، وكثير منها يغني عن الخمر، والكثير منها أيضاً يزيد عليها في الشفاء، إذا فرضنا أن فيها شفاء. مع ان النبي عليه الصلاة والسلام ينفي عنها مفعول العلاج والشفاء نفياً قاطعاً فقال (إنها ليست بدواء ولكنها داء) وهذا الحديث يكفي كل لبيب لفهم هذا الحكم.

ثم لو كانت الضرورة متحققة في العلاج لبينه النبي ? ولكنه لم يبين ذلك عندما سأله سيدنا طارق، مع وجود الحاجة إليه في ظن الصحابي رضي الله عنه،فدلّ على أنه لا ضرورة لذلك.

ومن هذا الباب قاسوا شربها للتداوي على شربها للغصة والعطش الشديد، وهو قياس مع الفارق واستدلال غير صحيح،لأن أثر شرب الجرعة عند الغصة والعطش الشديد متحقق وهو إنقاذ الحياة، والفاعل مضطر إلى ذلك باتفاق ,بحيث أنه لو لم يشرب ربما يموت، بخلاف المريض فإنه لا يقطع بأن المرض يزول بتجرعه، وهو غير مضطر إليها أصلاً , كما سبق , لوجود ما يغني عنها، ثم إن القياس لا يصح لأنه يعارض حديث النبي ? السابق.

يقول الإمام ابن العربي رحمه الله: (فإن قيل التداوي حالة ضرورة والضرورة تبيح المحظور فالتداوي بالحرام مباح. قلنا: التداوي ليس حال ضرورة، وإنما الضرورة ما يخاف معه الموت من الجوع، فأما التطبب في أصله فلا يجب فكيف يباح فيه الحرام)

ومثل هذا الكلام قاله ابن عابدين، نقله المباركفوري في عارضة الأحوذي.و مثله ذكره النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم، وإليه ذهب الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى. فذهبوا إلى أن دفع العطش وإساغة اللقمة متحقق النفع , ولذلك من لم يسغ اللقمة ولم يدفع العطش عند وجود الخمر ومات يأثم، بخلاف التداوي فإنه وإن كان بالحلال فانه ليس بمتحقق النفع، بل مظنون النفع، لذلك فإن من ترك التداوي ومات لا يأثم. وهذا ما دفع إليه صاحب بذل المجهود.

وما أجمل كلام الشيخ (أبو زهرة) رحمه الله حيث يقول: (ثم إن الخمر أمر محرم لعينه , فلا يباح إلاّ للضرورة، وليس منها التداوي، ولأن الضرورة – إذا كانت في التداوي ضرورة – لا تتيقن الخمر طريقاً للعلاج بل هناك غيرها مما هو أنجع وأطهر، وما قال طبيب منذ نشأة الطب إلى اليوم إن في الخمر فائدة طبية لا توجد في غيرها.

ومن هذا الباب أيضاً استدلالهم بالقياس على أكل الميتة والخنزير للمضطر، وهذا لا يسلم أيضاً لمعارضته للحديث النبوي ونكتفي هنا برد الشيخ ابن تيمية رحمه الله عليهم إذا يقول:

وليس هذا مثل أكل المضطر للميتة فإن ذاك يحصل به المقصود قطعا، وليس عنه عوض, والأكل منها واجب، وهنا لا يعلم حصول الشفاء، ولا يتعين هذا الدواء، بل الله تعالى يعافي عباده بأسباب متعددة) ثم قال مضعفاً قولهم واستدلالهم هذا: (والذين جوّزوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف لوجوه.

أحدها: أن المضطر يحصل مقصوده يقيناً بتناول المحرمات، فإذا أكلها سدت رمقه وأما الخبائث فلا يتعين حصول الشفاء بها، فما أكثر من يتداوى ولا يشفى، ولهذا أباحوا دفع الغصة بالخمر لحصول المقصود وتعينها له، بخلاف شربها للعطش فقد تنازعوا فيه فقالوا إنها لا تروي.

الثاني: لا طريق إلى إزالة ضرورته إلاّ الأكل من هذه الأعيان، أما التداوي فلا يتعين هذا الخبيث طريقاً لشفائه، فان الأدوية كثيرة وقد يحصل الشفاء بغير الأدوية وقد يحصل بما يجعله الله من الجسم في المقاومة.

الثالث: إن أكل الميتة للمضطر واجب بحيث يأثم لو لم يفعل، أما التداوي أي في حد ذاته فليس بواجب فلا يأثم لو لم يفعل. فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر.

وأما استدلالهم وقولهم بأن الأحاديث التي تنهي عن التداوي بالخمر محمولة على حالة التداوي بها حال الاختيار، فهذا إقحام للنص في غير مكانه، وتأويل بعيد، لتعاضد الأدلة في تحريمه وكما سبق في هذا البحث من أدلة.

ب- مناقشة أدلة القائلين بعدم الجواز:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير