تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن هنا فإن الفكر الإسلامي (السني خاصة) الذي رفض أرسطو رفضاً مطلقا ودعا – وفقاً لصريح القرآن – إلى نبذ تقليد السالفين، والتأمل في ملكوت السماوات والأرض والنظر في آيات الله الآفاقية والنفسية هو أصل تقدم الإنسانية الحالي كلها، وما فعله " جاليليو " بالنسبة لحركة الأجرام السماوية ما هو إلا جزء من الأثر السني الذي شمل العالم وصرع المنطق الصوري الإغريقي في الشرق قبل أن تتخلص أوربا منه بعدة قرون [16].

وعلى أية حال انطلقت أوربا في نهضتها بعيداً عن الدين وسوف نتتبع خط سيرها مقتصرين على الجانب المقصود بالذات وهو ((الأدب والفن)) الذي تنعكس على صفحات محيطه المتماوج الأوجه المتعاورة لأوربا في مراحلها التاريخية المتتالية.

كان جمود الآداب جزءاً من الجمود المطلق في ظل الكنيسة حيث كان العلم (وبالأصح معرفة القراءة والكتابة) منحصراً في رجال الدين، وأسوأ من ذلك أنه كان بلغة ميتة " اللاتينية " وهي لغة معقدة الأسلوب والقواعد في حين كانت أوربا تتكلم لهجات كثيرة متباينة.

أما المعايير الفنية للأدب والبلاغة والشعر والمسرح فكلها مصفَّدة بآراء أرسطو ونظرياته، وغاية العبقرية والإبداع والتجديد أن يستنبط الأديب أو الناقد من كلام أرسطو شيئاً أو يفرع عليه آخر، أما الخروج عليه فهو المحال.

فالملحمة (وهي التي ينعى الأوربيون على أدبنا العربي خلوّه منها) ظلت خلال القرون الوسطى والعصر الحديث محكومة بتلك القواعد المتزمتة والتقاليد الثابتة ومنه ضرورة الاستهلال بالتضرع إلى ربات الشعر مثل " كليوبي "، فالشاعر الإغريقي هو "ميروس" يتضرع إليها في ملحمته وكذا تضرع صنوه "هزيود" وعلى أثرهما نجد "دانتي" المسيحي يتضرع إلى "أبولو" (إله الشعر) في الكوميديا وكذلك تضرع "ميلتون" إلى "أورانيا" (ربة علم الفلك) في ملحمته "الفردوس المفقود"!! تعالى الله عما يشركون.

وفي الشعر نجد التقيد المطلق بما ورثه القدماء في المضمون والشكل ومن ذلك الالتزام بالمقاطع وعدد الأبيات في كل مقطع وعدد التفعيلات أيضاً أما النقد فكان ما قرره أرسطو هو المعيار الدقيق، وكانت المحاكمات الأدبية تتخذ كلامه دستوراً.

وهكذا لم تكن الكلاسيكية إلا تعبيراً واضحاً عن اعتقاد أوربا الكمال المطلق لعمالقة الفكر الإغريق وعلى رأسهم أرسطو.

والمهم أن أوربا النصرانية قدست اللاتينية تقديسها للنص الديني نفسه، وقدست معايير أرسطو الفنية تقديسها لعلم الكلام الكنسي المنقول عن الفكر الإغريقي.

ومن هنا كانت الحركة الأدبية المتحررة موصومة منذ البداية بالإلحاد والزندقة، وكان لابد لدعاتها من التسلح بقدر كبير من المغامرة والجرأة.

إنه ليس تحرراً من القيود الأدبية ولكنه تحرر من القبضة الكنسية الجائرة.

وكانت الزحزحة الأولى حيث ظهر حدثان أدبيان كبيران:-

أولهما: " الكوميديا الإلهية " للشاعر الإيطالي دانتي 1321م أبرز رواد عصر النهضة (معه: بتراك، دافينشي، تشوسر، مايكل أنجلو)، وبذلك سجلت أوربا كما يقول برتراند رسل: وثيقة التحرر الأولى!!

أما وثيقة التحرر الأخرى: - وهي أعظم من الأولى – فكانت على يد المصلح الكنسي "مارتن لوثر" ذلك المتدين الثائر الذي هاله ما رأى من فظائع البابوية فكتب وثيقة الاحتجاج المشهورة سنة 1517م وجعلها خمسة وتسعين بنداً وعلقها على مدخل كنيسة ويتنبرج، وليست هذه هي وثيقة التحرر التي نريد هنا ولكنها انبثقت منها، فقد ترجم لوثر الإنجيل إلى اللغة (اللهجة) الألمانية الدارجة وكانت أوربا قد عرفت المطبعة لأول مرة على يد جوتنبرج الألماني فكانت طباعة الإنجيل مترجماً بلغة غير اللاتينية هي الوثيقة الأدبية الأم وإن شئت فقل هي (البيان الحداثي الأول) [17] إلا أن أحداً من الناس حينئذ لم يطلق على هذا اسم الحداثة " موديرنزم " بمصطلحها الأدبي، ذلك أن الخلاف بين لوثر والكنيسة أكبر من أن يكون في الأدب أو اللغة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير