تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[(إني حفيظ عليم)]

ـ[ذو المعالي]ــــــــ[29 - 03 - 02, 12:32 ص]ـ

إن من عظيم نِعَمِ الله على العباد وَهْبَهُ إياهم أموراً تُمَيِّزُ بعضَهم فيها عن بعض، و قُدَرَاً متفاوتة مختلفة.

فليس البشر كلهم في القُدُرَات سواءً، و لا هم _ أيضاً _ في المواهب على اتفاق، بل أوْجَدَ الله فيهم اختلاف ذلك، و تفاوته و عدم اتفاقه لِحِكَمٍ عُظمى قلَّ المُدْرِكُوْن لها.

و لذلك كانت هذه الكلمة تحمل في طيَّاتها أصلاً أصيلاً، و قاعدةً متينةً و هي: (معرفة المرء قُدَرَ نفسه).

قال العلامة ابن عاشور _ رحمه الله _: (و هذه الآية أصلٌ لوجوب عرْضِ المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علِمَ أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة). (التحرير و التنوير 7/ 9)

و معناها واردٌ عن السلف _ رضي الله عنهم _ و من أحسن تلك الكلمات ما كتبه الإمام مالك بن أنس _ رحمه الله _ لأحد العباد _ لما كتب أحد العباد إليه ينكر عليه اشتغاله بالعلم، ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك -رحمه الله-: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر".

فالإمام مالكٌ _ رحمه الله _ أشار هنا إشارة بليغة إلى هذه القاعدة الكبيرة، فما أفقهه من إمام، و ما أبعد نظره.

و هذه القاعدة الكبرى مُرْتَكِزَةٌ على ركيزَتَيْن اثنتين:

الأولى: عدم رَفْعِ النفس فوق قدْرِها.

حيث ترى _ و هو كثير _ مَنْ يُخادع نفسه و يُلْبِسُها لباس الزور فيُنزلها منازل كبيرةً عليها، ليست هي من أهلها و لا قَرُبَتْ من أحوالهم.

الثانية: عدم إهانتها و إنزالها عن قدرها.

و هذه كسابقتها في الكثرة و الانتشار.

و كما أن الناس متَّعَهم الله بقُدَرٍ فإنه مما لا شك أن لتحصيلها سُبُلاً و طُرُقَاً، و جملة تلك طريقان:

الأولى: إدراك المرء ذلك من نفسه.

و ذلك من خلال تجارُب و أحوال مرَّت به علَّمته أنه يملك قُدْرَةً على أمرْ دون غيره، و قليل من يُدْرِكُ ذلك من تلقاء ذاته.

و لقد حَفَلت السيرة بشيء من ذلك ما يُذْكِرُ عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قال: أنا من الراسخين في العلم.

فابن عباس _ هنا _ أدرك من نفسه هذه القُدْرَة فنبَّه عليها، و أفصح عن حقيقتها.

و مثله: ما يُذكرُ عن كثير من السلف _ صحابةً و تابعين و تابعيهم _ من إخبارهم غيرَهم عما يعلمونه دون غيرهم.

الثانية: إدراك غيره منه.

الإنسان مَدَنِيٌ بطبعه، مُنْجَذِبٌ إلى بني جنسه، كثير المعاشرة لهم؛ لذا فقد يطلع بعضٌ على أن فلاناً موهوب بموهبة كذا؛ و هو جاهل بقُدْرَته هذه، غافلاً عن تلك الموهبة.

و من هذه ما حفَلَت به السيَر فمنها:

شأن أبي ذر _ رضي الله عنه _ فقد طلب من النبي (صلى الله عليه و سلم) أن يوليَه إمرةً فقال له (صلى الله عليه و سلم): "إني أراك ضعيفا، ً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم"

فالنبي (صلى الله عليه و سلم) أدرك من حال أبي ذر _ رضي الله عنه _ عدم أهليته للإمارة فنهاه، و قد غابت هذه عنه و أدركها غيره.

و مِنْ ذلك ما يُذكر عن الخليل بن أحمد الفراهيدي _ رحمه الله _ لما جاءه الأصمعي _ عبد الملك بن قريب _ رحمه الله _ طالباً علم العَرُوْض فلم يستطع فهمه، فأنشد الخليل:

و جاوزه إلى ما تستطيع ... إذا لم تستطع شيئاً فدعه

و حيث عُرِفَ هذا فإن على الإنسان أن يعلم أن لهذه المعرفة لقُدُرَات النفس مجالان _ هما أهم ما يظهر في الساحة _:

الأول: العلم.

مُفْرِحٌ أن نرى كثيراً من رجال الصحوة يعملون و يشتغلون في طلب العلم، و لكن يُؤْسِفُ _ جداً _ أن ترى عدداً ليس بالقليل منهم ينفضُّ عن مجالس العلم تلك في فترة قصيرة و جيزة.

و حين بَحْثِ السبب في ذلك تلمح أنه الجهل بقُدْرَةِ الرجل و ميوله و اهتمامه.

فإن طلب العلم شأنُ مَنْ ليس له أي شأن إلا طلب العلم؛ فهو يحتاج إلى تفرُّغٍ، و سهر، و بحث، و تحرير، و حفظٍ، ….

فكثير ممن سلك ذلك لم يَدُرْ في خاطره _ و لو لمرَّةٍ _ تساؤلٌ:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير