وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ذلك الخلاف، وبيَّن أنه على القول بأن حسابهم كان بالأشهر الشمسية: فتكون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لليهود يصومون ذلك اليوم: هو في ربيع أول، أول مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، ويكون حسابهم بالشمسي موافقاً لذلك المقدم، وأما حقيقة اليوم الذي نجى الله فيه موسى فهو العاشر من محرَّم، لكن ضبطهم لهم بالشمسي جعلهم يخطؤون في تعيينه.
قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله -:
وإن كان بالشمسية: زال الإشكالُ بالكلية، ويكونُ اليومُ الذى نجَّى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء من أول المحرَّم، فضبطه أهلُ الكتاب بالشهور الشمسية، فوافق ذلك مقدَم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة في ربيع الأول، وصومُ أهلِ الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، وصومُ المسلمين إنما هو بالشَّهر الهلالي، وكذلك حَجُّهم، وجميع ما تُعتبر له الأشهر من واجب، أو مُستحَبٍّ، فقال النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم)، فظهر حكمُ هذه الأولوية في تعظيم هذا اليوم، وفي تعيينه، وهم أخطؤوا تعيينه؛ لدورانه في السنة الشمسية، كما أخطأ النصارى فى تعيين صومهم بأن جعلوه فى فصل من السنة تختلِف فيه الأشهر.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " (2/ 69، 70).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذا التأويل احتمالاً، وردَّ عليه، وردَّ على ابن القيم ترجيحه له.
قال – رحمه الله -:
قال بعض المتأخرين: يَحتمل أن يكون صيامهم كان على حساب الأشهر الشمسية، فلا يمتنع أن يقع عاشوراء في ربيع الأول، ويرتفع الإشكال بالكلية، هكذا قرره ابن القيم في " الهدي "، قال: " وصيام أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس "، قلت: وما ادَّعاه من رفع الإشكال عجيب؛ لأنه يلزم منه إشكال آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يصوموا عاشوراء بالحساب، والمعروف من حال المسلمين في كل عصر في صيام عاشوراء: أنه في " المحرَّم "، لا في غيره من الشهور " نعم وجدت في " الطبراني " بإسناد جيد عن زيد بن ثابت قال: " ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة، وتقلس فيه الحبشة - أي: نلعب بالسيوف ونحوها من آلات الحرب -، وكان يدور في السنَة! وكان الناس يأتون فلاناً اليهودي يسألونه فلما مات أتوا زيد بن ثابت فسألوه ".
فعلى هذا: فطريق الجمع أن تقول: كان الأصل فيه ذلك، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء: ردَّه إلى حكم شرعه، وهو الاعتبار بالأهلة، فأخذ أهل الإسلام بذلك، لكن في الذي ادعاه أن أهل الكتاب يبنون صومهم على حساب الشمس: نظر؛ فإن اليهود لا يعتبرون في صومهم إلا بالأهلة، هذا الذي شاهدناه منهم، فيحتمل أن يكون فيهم من كان يعتبر الشهور بحساب الشمس، لكن لا وجود له الآن، كما انقرض الذين أخبر الله عنهم أنهم يقولون " عزير " ابن الله! تعالى الله عن ذلك.
" فتح الباري " (7/ 276)، وينظر أيضاً (4/ 247).
وفي موضع آخر من " فتح الباري " قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على أثر الطبراني:
ظفرتُ بمعناه في كتاب " الآثار القديمة " لأبي الريحان البيروني، فذكر ما حاصله: أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم، وأعيادهم، حساب النجوم، فالسنَة عندهم شمسية، لا هلالية، قلت: فمِن ثمَّ احتاجوا إلى من يعرف الحساب ليعتمدوا عليه في ذلك.
" فتح الباري " (4/ 247، 248).
وأما أثر زيد بن ثابت الذي ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله، وأجاب عنه، فقد تكلم الحافظ ابن رجب رحمه الله من حيث الإسناد والمتن.
قال رحمه الله:
وهذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس هو في " المحرَّم "، بل يُحسب بحساب السنَة الشمسية، كحساب أهل الكتاب، وهذا خلاف ما عليه عمل المسلمين قديماً ... وابن أبي الزناد لا يُعتمد على ما ينفرد به، قد جعل الحديث كلَّه عن زيد بن ثابت، وآخره لا يصلُح أن يكون من قول زيد، فلعله من قول من دونه، والله أعلم.
" لطائف المعارف " (ص 53).
¥