تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كما أن ثمة تقنيات فكرية ومسالك عقلية يستعملها الفقيه في الإلحاقات الفقهية، ورسم الحكم الفقهي المناسب لكل صورة متوقعة في المستقبل، ومن تلك التقنيات: مراعاة المتغيرات، فإذا أرادوا رسم مشهد مستقبلي (سيناريو) معين، حددوا المتغيرات الواردة في كل مشهد، ثم وضعوا الاحتمالات الممكنة، ووضعوا حلاً فقهياً لكل مشهد، مثال ذلك ما ذكروه في ميراث الحمل، وأنه إذا مات ميت عن حمل، هو ولد للميت، فإنه يحتمل أن يكون ذكراً أو أنثى، أو يكون توأماً، فيضعون حكماً مناسباً لكل احتمال، فهنا تجد أنهم حددوا المتغيرات والثوابت، وتوقعوا الصور الممكنة.

ومن تلك التقنيات العقلية ملاحظة الغالب والنادر، فيلحقون الصور المحتملة بما يقع غالباً، وقد يلحق الحكم بالنادر في صور أخرى، وهي صور استثنيت بالشرع أو بالمصلحة المعقولة، مثال ذلك عقد الصلح مع الدولة الكافرة، مع أن الغالب استمرار الكفار على الكفر، وموتهم عليه بعد الاستمرار، ومع أن دخولهم في الإسلام ليس غالباً في العادة، ومع هذا فقد ألغى الشارع حكم هذا الغالب، وأثبت حكم النادر وهو توقع إسلام بعضهم، فعقد الجزية والصلح والهدنة والمسالمة لذلك التوقع النادر، كما أشار إلى بعض ذلك العلامة القرافي.

ومن تلك المسالك والأدلة: الدليل المسمى سد الذرائع، وهو منع التذرع إلى الأعمال المحرمة بالطرق المباحة، بالإضافة إلى فتح الذرائع كذلك، وفتح الذريعة هو أن يكون الفعل المباح أو المشتبه وسيلة لتحقيق الخير للناس، بحيث يفضي إلى مصلحة راجحة، فيكون مطلوباً شرعاً، كما في إباحة النظر إلى المرأة الأجنبية إذا كان قد عزم على خطبتها، فالشريعة عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها كما قرره الأئمة، وهذا مبناه على التوقع الرشيد، الذي يقيس درجة الإفضاء بطريقة المقاربة، ويأخذ بالمصلحة الراجحة ويتغاضى عن المفسدة المرجوحة، رفقاً بالمكلفين.

وقد اعتنى الفقهاء بالقواعد الضابطة للنظر المصلحي، ووضعوا لذلك معايير حاكمة، ومؤشرات لقياس تلك المعايير، وسلكوا في ذلك مناهج موضوعية محايدة.

وثمة مسالك للتوقع لا يتقنها كل أحد، بل هي من علوم الخواص المعروفين بالفراسة وجودة الحدس والقدرة على الربط والاستنتاج، ومثل ذلك القيافة: وهي الاستدلال بالأثر على النسب ومكان السير، وكذلك تعبير الرؤى والمنامات، وهذا من العلوم الدينية، التي مبناها على المقايسات كقياس الشبه، وأخص منها كلها: الإلهام، وهو لا يقع إلا للقليل من الناس، ومثل القدرة على صناعة الخيال العلمي، وهذا من العلوم الدنيوية.

وبالطبع فإن لهذا التوقع حدوداً لا يتجاوزها، وتجاوز تلك الحدود يفضي إلى نتائج خاطئة، كما لو بنى حكمه على ما يخالف السنن الكونية الجارية، ومن ذلك ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنفية من أن الرجل إذا عقد على امرأة، وهو بأقصى المغرب، وهي بأقصى المشرق، ثم جاءت بولد، فإن الولد ينسب إليه، واحتجوا بالحديث الصحيح: " الولد للفراش "، وهذا الفهم والتنزيل خطأ كما قرره المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية، لأن مورد الحديث فيما لو حصل الدخول وكان ممكناً، فأما في الحال المذكورة فلا يمكن أن تعلق الزوجة منه بولد، هذا مخالف للسنة الكونية المعهودة.

الاستنباط والتحليل

* هل هناك شروط معينة يفترض توفرها في الفقهاء المهتمين بهذا الفقه؟

- بما أن عملية التوقع مبناها على مقاربة المستقبل بالتحليل والاستنباط، فإن القيام بهذا النوع يستلزم قدراً زائداً على حفظ الفروع الفقهية والمسائل الجزئية، فمن الضروري أن يتوفر الفقيه على ملكة الفهم والتصور الصائب للسنن الكونية، ومعرفة طبائع الاجتماع البشري، والقدرة على التحليل والتركيب، والمقايسة والتمثيل، وامتحان الفروض الممكنة، بحيث يتمكن من قراءة سلسلة الوقائع بطريقة صحيحة، خالية من المبالغة والتبسيط.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير