تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا يكفي لهذا النوع من العلم أن يكون عارفاً بالأقيسة الفقهية المعتادة في المجال الفروعي، فهذه وحدها غير كافية، بل قد ذكر ابن خلدون أن الإيغال في القياسات الفقهية الفرعية قد تحجب نظر الفقيه عن التبصر بالأحداث والوقائع الحالية والمستقبلية، ولهذا السبب يخفق بعض فقهاء الفروع عند دخولهم المعترك السياسي العملي، في حين سجلت نجاحات ممتازة للفقيه المتزود بأدوات النظر الأصولي والفروعي، ومن يقرأ سيرة ابن تيمية رحمه الله ويتأمل نتاجه المعرفي يوقن أنه كان يتسامى فوق بعض الاستدلالات والقواعد الشائعة، ويستأنف في بعض الوقائع نظراً مناسباً لائقاً بتلك الوقائع، ومثله في ذلك العز بن عبد السلام رحمه الله، فإنه حين عزم جيش التتار الرهيب على غزو مصر، قام الشيخ يقوي نفوس الناس والأمراء، وقال لأهل مصر ولسيف الدين قطز: " اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر "، وكذلك حين أقسم الإمام ابن تيمية للأمراء في وقعة شقحب بأنهم منصورون في مناجزتهم للتتار، وكان يتنقل بين العساكر الإسلامية ويتحدث بلغة الواثق الذي لا يتردد ولا يتلعثم، فقالوا له: قل إن شاء الله، فقال: " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً "، وكانوا في ذلك قارئين جيدين لسنن الاجتماع البشري، مستضيئين فيه بالآيات القرآنية الدالة على سنن الله في كونه وخلقه، من خذلان الظلمة ونصر المظلومين، مثل قوله تعالى: ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) [سورة القصص (5) وقوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)) [سورة الحج (60)]. هذه نماذج من فقهاء راسخين، نجحوا في ارتفاق الكون، وارتياد المستقبل بشفوف النظر المزكى بنور الآيات والسنن.

غير المختصين

* لماذا غفل العلماء عن الاهتمام بهذا النوع من الفقه؟ وأثر ذلك على دخول غير المختصين في الأمر وإحداث بلبلة تجاه القضايا المستحدثة؟

- قد لا تظهر للمتابع من بعيد، لكن إذا تأملت النتاج الوافر الذي حققه الفقهاء بمختلف مذاهبهم وعصورهم فستجد نماذج رائعة لفقه التوقع، وإن كانت العصور تتفاوت في وفرة العلماء القادرين على استشراف المستقبل، مثله في ذلك مثل سائر العلوم الحضارية التي تنتعش تارة وتخبو تارة، بحسب المكانة العلمية والمعرفية للأمة.

ومن جهات الصعوبة في فقه التوقع أنه يتطلب من الفقيه أن يسمو بنظره فوق الزمان، ويتحرر من علائق المكان، ويتخلى عن حكم الحاضر، ويشرف على المستقبل، ومن الصعب جداً على العقل البشري أن يعيش في زمانٍ غير زمانه الذي عايش أحداثه، واستوعب ظروفه، وتعاطى مع أدواته.

ولهذا ذكر صاحب كتاب " صدمة المستقبل " أنه في عام (1865م) أشار كاتبٌ في إحدى الصحف إلى أن الذين يعرفون الأخبار جيداً يعلمون أنه من المستحيل نقل الصوت عبر الأثير [يشير إلى استحالة اختراع الهاتف]، وأنه لو أمكن حدوث ذلك، لما كان هذا بالأمر المفيد علمياً، ولم يمضِ عقدٌ واحدٌ من الزمن على هذا التصريح حتى ظهر جهاز الهاتف من مختبر " جراهام بل " مخترع الهاتف!، وفي اليوم الذي طارَ فيه مكتشفا الطائرة ذات المحرك، رفضت الصحف نشر الخبر، نظراً لأن المحررين كانوا غير مستعدين لتصديق الخبر!، وفي عام 1896م صرح اللورد كلفن الفيزيائي الذي كان يرأس الجمعية الملكية في بريطانيا بصيغة قاطعة بأن " الآلات الطائرة التي هي أثقل من الهواء هي من المستحيلات " [الاستشراف؛ إدوارد كورنيش (222)]، في أمثلةٍ كثيرة، تنبئ عن عجز الإنسان وقصوره عن استشراف الاختراعات الكبرى في حياة البشرية، فضلاً عن تفصيلات الحياة المستقبلية، واعتبِر ذلك في التوقعات والتنبؤات التي قيلت حول العام (2000م) قبل حلولِه، وكيف جاءت النتائج مخالفةً ـ في الغالب ـ لمقاربات كبار المحللين في العالم وحدسِهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير