وهذا أقرب إلى أن يكون على مذهب من اختار تكفير الخوارج، فيصبح الحديث مختصاً بهم ومقصوراً عليهم لظهور هذه الصفة فيهم ولصوقها بهم، إلا أن في هذا تخصيصاً لحديث بغير مخصص ظاهر، لا سيما وأن ظاهره العموم، وتنوع ألفاظه التي جاء بها يُستبعد معه هذا الحمل، والكلام ليس على كون الخواج يدخلون في عموم الحديث أم لا، وإنما على اختصاصهم به وأن يكونوا هم المقصودين فحسب.
قال الإمام الزرقاني: (قال أشهب: سئل مالك عن هذا الحديث؟ فقال: أرى ذلك في الحرورية، قيل: أتراهم بذلك كفاراً؟ قال: ما أدري ما هذا).
وقال الإمام النووي: (والثالث؛ أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا الوجه نقله القاضي عياض رحمه الله عن الإمام مالك بن أنس وهو ضعيف، لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون؛ أن الخوارج لا يَكفُرون كسائر أهل البدع).
وقد جعل الحافظ ابن حجر لما قاله الإمام مالك وجهاً، إلا أنه بعيد عن معنى الحديث، فليُراجع في "الفتح".
# الرابع؛ أن تكفيره لأخيه المسلم سيجره إلى الكفر ويقوده إليه، فإن لم يكفر في الحال فقد يكفر في المآل:
فكأنه بذلك صار مستحقاً لأن يُستدرج إلى الكفر ويصير إليه عاجلاً أم آجلاً فالمعصية تقود إلى المعصية، لا سيما مع الإصرار والجرأة عليها والتهاون بها.
قال الإمام النووي أيضاً: (والوجه الرابع؛ معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر، وذلك أن المعاصي - كما قالوا - بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبي عوانة الاسفرايني في كتابه "المخرج على صحيح مسلم"، فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر.، وفي رواية؛ إذا قال لأخيه؛ يا كافر، وجب الكفر على أحدهما).
وقال أبو عمرو الشهرزوري: (يتجه فيه معنى آخر مطرد في سائر الأحاديث القاضية بالكفر فيما ليس في نفسه كفراً، وهو أن ذلك يؤول به إلى الكفر إذا لم يتب توبة ماحية لجرمه ذلك! إذ المعصية إذا فحشت جرت بشؤمها إلى الكفر، ولذلك شواهد، ووصف الشيء بما يؤول إليه سائغ شائع، من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون}، والله أعلم) [صيانة صحيح مسلم: 235].
# الخامس؛ أن تكفيره لأخيه المسلم قد رجع عليه:
فالراجع عليه هو التكفير لا الكفر، فكأنه حينما وصف أخاه المسلم المعتقد لدين الإسلام بالكفر كان في الحقيقة واصفاً نفسه بذلك لأن دينهما واحد، فكأن قائلا يقول له؛ إن تكفيرك لأخيك المسلم بهذا الوجه هو تكفير لنفسك، فأنت أيضاً مثله في ذلك، وما استحقه هو استحققته أنت سواء بسواء، إذ أن دينكما واحد وكلاكما متصف بالأسلام ولا فرق.
قال الإمام النووي: (والوجه الخامس؛ معناه فقد رجع عليه تكفيره فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافراً، فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، والله أعلم).
وقال أبو عمرو الشهرزوري: (فأقول - والله أعلم -؛ إن لم يكن يتحقق كافراً كما قال رجع عليه تكفيره فليس الراجع إليه هو الكفر بل التكفير، وذلك لأن أخاه إذا كان مؤمناً وقد جعله هو كافراً، مع أن المؤمن ليس بكافر إلا عند من هو كافر ... فقد لزم من ذلك كونه مكفراً لنفسه ضرورة، لتكفيره من لا يكفره إلا كافر، ويكون الضمير في قوله؛ "فقد باء بها"، بوصمة التكفير ومعرته، أي أنها لاصقة بأولاهما بها، وهو المقول له إن كان كما قيل وإلا فالقائل) [صيانة صحيح مسلم: 234].
# السادس؛ أن الأمر على ظاهره، وأن كل من كفَّر مسلماً ولم يكن المكفَّر كذلك، وليس له في تكفيره تأويل أو شبهة، فهو كافرٌ:
وهذا ما يُفهم من إطلاق تبويب البخاري على الحديث المذكور، حيث قال: (باب؛ من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال).
قال ابن حجر: (قوله: باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال؛ كذا قيد مطلق الخبر بما إذا صدر ذلك بغير تأويل من قائله).
ولهذا أردف البخاري هذا الباب بقوله في الذي يليه: (باب مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَوْ جَاهِلا).
قال الإمام الزرقاني: (لأنه إن كان القائل صادقاً في نفس الأمر فالمرميّ كافر، وإن كان كاذباً فقد جعل الرامي الإيمان كفراً فقد كفر، كذا حمله البخاري على تحقيق الكفر على أحدهما).
¥