ونظيره قول ابن حبان رحمه الله: (ذكر البيانِ؛ بأنَّ مَن أكفرَ إنساناً فهو كافِرٌ لا محالة).
ثم ساق الحديث بسنده عن أبي سعيد، قال: قال رسولُ اللَّه: (مَا أكْفَرَ رَجُلٌ رَجلًا قَطُّ إلَّا باءَ أَحَدُهُما بها، إنْ كانَ كافِراً وَإلَّا كَفَرَ بِتَكْفِيرِهِ).
وكذا نُقل عن المتولي من الشافعية.
وقال أبو بكر الحصني الشافعي: (ولو قال لمسلم؛ يا كافر بلا تأويل كَفَر، لأنه سمى الإسلام كُفْراً، وهذا اللفظ كثير يصدر من التُرك فليتفطن لذلك) [كفاية الأخيار: 2/ 123].
وقد ركّب ابن حجر هذا القول مع الذي قبله وجعلهما قولاً واحداً ورجحه على الجميع فقال: (وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه؛ أنه كافر، فإنه يكفر بذلك ... فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه؛ "وجب الكفر على أحدهما").
# السابع؛ إنما سيقت الأحاديث الدالة على كفر من كفر مسلماً بغير تأويل:
لأجل التغليظ في ذلك والتشديد في استحقاقه العقوبة البالغة، وللنهي البليغ عن الإقدام عليه، وليس المقصود أنه صار بذلك كافراً كفراً مخرجاً من الملة، إلا أن ما جاء به يعد من أغلظ الذنوب وأشنعها وأبشعها.
والذي يظهر - والله أعلم - أن هذا هو القول الراجح، وذلك لما يأتي:
أولها؛ عن أبي قلابة رضي الله عنه أن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أخبره أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله، ومن ذبح نفسه بشيء عذب به يوم القيامة) [رواه البخاري ومسلم].
والشاهد من الحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل رمي المؤمن بالكفر بمنزلة قتله، وهذا يدل على أن قتله أشد من رميه بالكفر، إذ ظاهر الحديث إنما قُصد بهذا التشبيه استشعار عظمة تكفير المؤمن وإكبارها في النفوس، كما هو الحال بالنسبة لقتله حيث يعظُم أمره في قلب كل مؤمن، ولو كان الكفر على ظاهره لكان أشنع وأبشع وأغلظ من القتل، ولكان تشبيه القتل به أولى من العكس، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، وقال عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217)].
فتشبيه تكفير المسلم بقتله تضمن أمرين؛
أحدهما؛ عظم هذا الذنب عند الله تعالى.
وثانيهما؛ شدة العقوبة المترتبة على ذلك لمن لم يتب منه توبة نصوحاً، فقد قال الله تعالى في حق من قتل مؤمناً متعمداً بغير حق: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93].
زد على ذلك أن ما عُدِّد في الحديث مع تكفير المسلم ليس شيء منها يعتبر كفراً مخرجاً من الملة، لا سيما وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نظير تكفير المؤمن وهو لعنه وهذا ليس بالكفر المخرج من الملة اتفاقاً.
ومثل ذلك ما جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فهو كقتله) [رواه البزار، ورواته ثقات].
قال المناوي رحمه الله: (ومن قذف مؤمناً بكفر كأن قال: يا كافر فهو كقتله، أي القذف كقتله في الحرمة، أو في التألم، ووجه الشبه أن النسبة إلى الكفر الموجب للقتل كالقتل، فإن المنتسب إلى الشيء كفاعله) [فيض القدير: 5/ 371].
ثانيها؛
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) [رواه البخاري ومسلم وغيرهما].
فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على أن قتال المسلم يعتبر كفراً ووصفه بذلك، وقد تضافرت الأدلة على أن قتال المسلم للمسلم لا يعتبر كفراً مخرجاً من الملة، ويكفي في ذلك قول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
ونظير الحديث المذكور أيضاً حديث الصحيحين عنِ ابن عمرَ رضيَ الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَيلكم - أو وَيحَكم - لا تَرجِعوا بعدي كفّاراً يَضربُ بعضكم رِقابَ بعض).
وهذا يدل على أن إطلاق لفظ الكفر في اصطلاح الشارع قد لا يراد به ظاهره المعروف، وخاصة عند وجود القرينة البينة الصارفة عن ذلك، كما هو الحال هنا وفي الذي قبله.
وفي ترجيح هذا الوجه يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله: (والمعنى فيه عند أهل الفقه والأثر أهل السنة والجماعة النهي عن أن يكفر المسلم أخاه المسلم بذنب أو بتأويل لا يخرجه من الإسلام عند الجميع فورد النهي عن تكفير المسلم ... ومثل هذا كثير من الآثار التي وردت بلفظ التغليظ، وليست على ظاهرها عند أهل الحق والعلم، لأصول تدفعها أقوى منها من الكتاب والسنة المجتمع عليها والآثار الثابتة أيضا من جهة الإسناد) [التمهيد: 17/ 14 - 15].
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: (فهي على سبيل التغليظ والتشبيه له بالكفار لا على الحقيقة كقوله عليه السلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ... وقوله: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما").
ثم ساق أحاديث عدة وقال: (وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد وهو أصوب القولين والله أعلم) [المغني: 2/ 158].
فالخلاصة ...
أن قول المسلم لأخيه المسلم؛ يا كافر أو يا عدو الله، يعد أمراً عظيماً في الشريعة لا يجوز الإقدام عليه، ومن قال ذلك بغير تأويل معتبر؛ يكون آثماً إثماً كبيراً يلزمه منه التوبة والإنابة والاستغفار، إلا أنه لا يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة.
والله تعالى أعلم
الشيخ حسن قائد
- حفظه الله -
¥