تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن "حرب المصطلحات" - بالمعنى الذي أردناه وبيناه - أسلوب إبليسي قديم، أسسه عدو الإنسان اللدود، ووضع لبنته من أول معصية دعا إليها ورغب فيها، والتي أغوى بها نبي الله آدم عليه السلام وهو في الجنة حتى أُخرج منها، ولم يزل أتباعه وأولياؤه وحزبه يقفون أثره، ويهتدون بهديه، ويسلكون سبيله، لشعورهم بمدى أهمية هذا الأسلوب، ولمعاينتهم لنجاحه في كثير من الأحيان، ولهذا لم ينقطع اهتمامهم به، وعنايتهم بطرقه، وحرصهم الشديد على تطويره وإقحامه في جزئيات حربهم لأهل الحق في كل زمن، كما هو محكي عنهم في القصص القرآني، ومروي في سيرتهم على مدى عصور التاريخ، وكما هو مشاهد اليوم من خلال ما تقوم به وسائل الإعلام بأنواعها كافة.

قص الله سبحانه وتعالى علينا ما جرى لآدم عليه السلام في الجنة، وكيف أغواه الشيطان، وقاده إلى معصية ربه، فأكل من الشجرة التي نهاه عن الاقتراب والأكل منها، فكان مما جاء في القصة بيان ما خاطب به إبليس - لعنه الله - آدمَ وزوجه حتى جعلهما يأكلان من تلك الشجرة المنهي عنها، والتي حذرهما ربهما من اقترابها، فقال الله سبحانه حاكيا لنا ما قاله إبليس اللعين: {فوسوس لهما الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}، وقال في آية أخرى: {قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}، فإبليس عندما أراد أن يجر آدم عليه السلام إلى المعصية - وهي الأكل من الشجرة - أول ما قام به إضفاء الاسم الحسن الجذاب المغري على تلك الشجرة، فسماها "شجرة الخلد"، وفرَّع على ذلك حصولهما - بعد الأكل منها -؛ على ملك لا يبلى أي لا يزول ولا ينقطع، بل فوق ذلك يعترف أمامهما بأن الله قد نهاهما عن الأكل من هذه الشجرة: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة}! ولكنه يضفي على هذا النهي عبارات خلابة ليستميل بها آدم وزوجه، ويبعث في النفس أماني فطر الإنسان على حبها والتعلق بها - وهي حب الملك وطلب الخلود - فخلع على المعصية هذه الخلعة، ونمقها بتلك النعوت المغرية، وزعم لهما أن عاقبة الأكل من الشجرة {أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}، وأضاف إلى هذا التزيين والتزييف أن {قاسمهما إني لكما لمن الناصحين}.

فهذه هي أول سبيل سلكها إبليس - وهو المتمرس في الإغواء المختص به - للإيقاع في المعاصي، حيث تقمص لأجلها ثوب الناصح الصادق المشفق، وارتدى ثوب مريد الخير الحريص على إيصاله لآدم أو إيصال آدم إليه، وأفلح اللعين "بقلب الأسماء" وتغيير الصفات في أن أوقع آدم وزوجه فيما نهاهما الله عنه وحذرهما منه، وعلمنا ما ترتب على ذلك من إخراج آدم وزوجه من الجنة بعد أن تاب الله عليهما وإنزالهما إلى الأرض.

وإذ رأينا عاقبة هذا الأسلوب "الإبليسي" وعلمنا أنه أول ما استخدم للإغواء والإغراء والإيقاع في المعاصي؛ أدركنا خطره ولزمنا التنبه إليه، والحرص على معرفته ومعرفة مروجيه؛ لتُسد أمامه الأبواب.

ثم لم يزل هذا الأسلوب الإبليسي يتلقفه أتباعه جيلا بعد جيل، ويسلمه سلفهم لخلفهم فتشابهت عليه قلوبهم، وسارت به سيرتهم، وتواطأت أقدامهم، فلم يرتضوا التفريط فيه أو الغفلة عنه وإهماله.

فهذا فرعون - وهو إمام من أئمة الكفر، ومارد من مارديه - رغم جبروته وطغيانه واستكباره وعلوه في الأرض وبسط نفوذه على بني إسرائيل؛ لم ينس أن يسلك هذا المسلك، ولم يغفل عنه وهو في أوج تبجحه وفوران استعلائه، إذ يصف رسول الله موسى عليه السلام بأنه مجنون - وقد علم هو قبل غيره بأنه كاذب - ذلك أن موسى عليه السلام قد تربى في قصر فرعون ونشأ بين عينيه، ولذا فإن فرعون من أعرف الناس به، ولكن خشيته على ملكه، وخوفه من زوال عرشه، وتهيبه من تخلي الناس عن عبادته، وانتفاضهم وتحديهم لقهره جعله يقول: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}.

وما هي إلا لحظات من الحوار حتى يناقض فيها فرعون نفسه جهارا، ويُكذِّب - أمام ملأه - قولَه، فيلتفت إليهم في غير استحياء من هذا التناقض الفاضح قائلا لهم: {إن هذا لساحر عليم}.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير