تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويا لله العجب! كيف تتهاوى حجج أهل الباطل أمام براهين الحق، وكيف تتضعضع أركان أتباع الشيطان أمام سلطان أولياء الرحمن، فشتان شتان بين "المجنون" الذي يتخبط لا يعلم ما يأتي وما يذر ولا يفرق بين بشر أو حجر وبين "الساحر العليم" الذي يدبر ويكيد ويخطط، ويُخشى حتى يقال في حقه: {يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون}.

ولكنه التذبذب الذي يرسله الهوى، والاضطراب الذي يغذيه الحقد الدفين، فلا غرو إذا أن يصف فرعونُ موسى عليه السلام بأي وصف وينعته بكل نعت، يرجو من ورائه نيل مرغوبه واقتناص مراده، وهو تنفير الناس منه وبعدهم عنه، وهو دأب الطغاة في كل حين.

وهذا الأسلوب عينه سلكه كفار قريش مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فبعد أن عرفوه قبل بعثته بصدقه وأمانته، وبعده عن لغطهم وسفههم، وتنزهه عن ركسهم ورجسهم، حتى لقبوه بالصادق الأمين، فما إن دعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الهدى من سبيل الردى، وأراد أن يوقظهم من سكرتهم التي هم فيها يعمهون، ويخرجهم من ظلماتهم التي في حوالكها يتقلبون، حتى قلبوا له ظهر المجن، وتنكروا لما يعرفونه عنه من الصدق والأمانة، وراحوا يطلقون عليه أبشع النعوت، ويصفونه بوضيع الأوصاف - وهو الطاهر الزكي المزكي فداه أبي وأمي - تنفيرا للناس عن دعوته، وإبعادا لهم عن الاستماع لحجته، فتارة قالوا "ساحر"، وتارة "شاعر"، وحينا "مجنون"، وطورا "كاهن"، كل ذلك ليصبح في أذهان الناس بسبب هذه "المصطلحات" والنعوت كغيره من الناس، فلا ينال مع اتصافه بها مزية تجعل الناس يصغون لقوله، ويهتمون بدعوته، ويحرصون على معرفة جديده، إذ الشعراء غيره كثير، ومثل ذلك السحرة والكهان والمجانين.

قال الله سبحانه ذاكرا بعض ما وصف به كفار قريش نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم: {ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون}، وقال سبحانه: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}، وقد رد الله عليهم فريتهم ودحض كذبتهم في آيات عدة كقوله سبحانه: {وما صحابكم بمجنون}، وقال عز وجل: {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون}، وقال سبحانه {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}، والآيات في ذلك كثيرة معلومة.

والشاهد من هذا كله؛ أن كفرة قريش قد لجئوا إلى ما سار عليه أسلافهم من الأمم الخالية، وآووا إلى طريقتهم في انتقاء الألفاظ المنفرة واختيار الأسماء المنبوذة التي يصفون بها النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وكتاب ربه الذي يتلوه عليهم، كل ذلك لأجل صد الناس عنه وصرف أسماعهم عن الإصغاء لما يدعوهم إليه.

وهي سنة متبعة بينهم وطريقة قديمة لم تزل الأمم تنتهجها، كما قال عز وجل: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون}.

ولأهمية هذا الأسلوب؛ كانت - ولا زالت - تعقد لأجله الندوات والمؤتمرات للتشاور في انتقاء "المصطلحات" والصفات التي يرجى من ورائها حصول المرام.

كما جاء في كتب السيرة؛ أن كفار قريش لما دنى موسم الحج بعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشهار دعوته وتبليغها للناس كافة والصدع بما أمره الله، اجتمعوا للتشاور في الكيفية التي يحيلون بها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عرض دعوته على الوافدين على مكة من الحجيج، فرأوا أنه لا بد من كلمة يقولونها إليهم في شأن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في اختيار تلك الكلمة اللائقة، فقال الوليد: (أجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا)، فطلبوا منه أن يشير عليهم برأيه ويدلي معهم بدلوه، فرد الأمر إليهم ليستمع هو ما يقولون، قالوا: (نقول كاهن)، قال: (لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا سجعهم)، قالوا: (فنقول: مجنون)، فقال: (ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته)، قالوا: (فنقول شاعر)، قال: (ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر)، قالوا: (فنقول ساحر)، قال: (ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم)، قالوا: (فما نقول؟)، قال - بعد أن اعترف بعذوبة القرآن وحلاوته وطلاوته وطيب أصله وفرعه - قال:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير