الأول ـ هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر. كقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسِّحْرَ}. فقوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ} يدل على أنه لو كان ساحراً ـ وحاشاه من ذلك ـ لكان كافراً. وقوله {وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسِّحْرَ} صريح في كفر معلم السحر، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقرراً له: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}، وقوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لاٌّخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ} أي من نصيب، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذاً بالله تعالى. وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح، وذلك مما لا شك فيه.
الأمر الثاني ـ أنه عرف باستقراء القرآن أن الغائب فيه أن لفظة {لاَ يُفْلِحُ} يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة «يونس»: {قَالُواْ ?تَّخَذَ ?للَّهُ وَلَداً سُبْحَـ?نَهُ هُوَ ?لْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى ?لسَّمَـ?وَ?ت وَمَا فِى ?لاٌّرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـ?ذَآ أَتقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَقُلْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَمَتَـ?عٌ فِى ?لدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ?لْعَذَابَ ?لشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، وقوله في «يونس» أيضاً: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَـ?تِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْمُجْرِمُونَ}، وقوله في «الأنعام»: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِأايَـ?تِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ}. إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة: أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة والكفرة ـ غيرهم أنه ينال الفلاح، وهو كذلك، كما بينه جل وعلا في آيات كثيرة. كقوله: {أُوْلَـ?ئِكَ عَلَى? هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ}، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
ووقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ} مضارع أفلح بمعنى نال الفلاح. والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب. ومنه قول لبيد: فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل
فقوله «ولقد أفلح من كان عقل» يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر مطلوب. ويطلق الفلاح أيضاً على البقاء والدوام في النعيم. ومنه قول لبيد: لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح
فقوله «مدرك الفلاح» يعني البقاء. وقول الأضبط بن قريع السعدي، وقيل كعب بن زهير: لكل هم من الهموم سعه والمسى والصبح لا فلاح معه
يعني أنه ليس مع تعاقب الليل والنهار بقاء. وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم «حي على الفلاح» في الأذان والإقامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {حَيْثُ أَتَى?} حيث كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان، ربما ضمنت معنى الشرط. فقوله: {وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى?} أي حيث توجه وسلك. وهذا أسلوب عربي. معروف يقصد به التعميم. كقولهم: فلان متصف بكذا حيث سير، وأية سلك، وأينما كان. ومن هذا القبيل قول زهير: بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا وزودوك اشتياقاً أية سلكوا
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية:
{وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى?} أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض. وقيل: حيث احتال. والمعنى في الآية هو ما بينا والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى ـ اعلم أن السحرة يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه ولطف ودق. ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر. ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري: جعلت علامات المودة بيننا مصائد لحظ من أخفى من السحر
فأعرف منها الوصل في لين طرفها وأعرف منها الهجر في النظر الشزر
¥