[كم في " تذكرة الحفاظ " من تذكرة؟!]
ـ[أبو العالية]ــــــــ[27 - 07 - 03, 02:27 ص]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بين المباني والمعاني:
كم في (تذكرة الحُفّاظ من تذكرة)!
إنّ فَنّ التراجم من العلوم الإسلامية البديعة, التي حفظت تاريخ أمّتنا في حصون منيعة. لا يطالها التشويه, ولا ينطلي عليها التّمويه. فالذين كتبوا تاريخ أمّتنا هم خيار بنيها شعارهم في ذلك (أعط القوس باريها).
وقد نَحَتْ كتب التراجم نحو الهدي القرآني في التأسي بالكرام (فبهداهم اقتده)؛ إذ إنّ أولئك الرجال محلّ الأسوة وموطن القدوة:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبّه بالكرام فلاحُ
فقد اتخذ علماؤنا من سير أعلام النبلاء نبراسا للأجيال, وأساساً في تغيير الأحوال, كيف لا وقد كان العَلَمُ الواحد منا أمّة كما قال شعيب بن حرب (إنّي لأحسب أنه يُجاء غدا بسفيان ـ الثوري ـ حجّة من الله على خلقه, يقول لهم: لم تدركوا نبيّكم قد أدركتم سفيان)! ففي كتب الرجال ماضٍ مجيد وعِزٌّ تليد وشوقٌ إلى المزيد. وكَمْ من العِبر في أخبار مَن عَبَر, وما أكثر شذرات الذَّهب في أخبار من ذَهَب! وأنَّى لنّا أن نُلِمَّ بما مرّ على أمّتنا من الهداية والغواية بدون استقراء البداية والنهاية!
فكتابة التراجم فنٌّ عُنِي به المسلمون, واحتَفَوا بما فيه من القصص المليحة والأخبار الصحيحة. وما شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع خبر تميم الدَّاري عن الجسّاسة ببعيد. وكذلك تمنّيه لو صبر موسى عليه السلام ليعلم من خبر الخضر عليه السلام المزيد.
وهكذا كانت عناية علماء المسلمين بجهابذة الفنون المختلفة, فقد كتبوا في تراجم القراء كما تراه عند الذهبي وابن الجزري, ودوّنوا تراجم المحدّثين كما هو شأن الذهبي والسيوطي, وسطّروا تراجم الفقهاء من أمثال الشيرازي في طبقات الفقهاء وعياض في ترتيب المدارك والتاج السبكي في الطبقات. كما سجّلوا في تاريخ اللّغويّين والنحويّين والأدباء كتبا كثيرة لياقوت والقُفطي والسيوطي.
وما من كتاب من هذه الكتب إلا وفيه تذكرة وعبرة, ولعلّ خير دليل على ذلك ما في كتاب شمس الدين الذهبي (تذكرة الحفاظ) من روائع الحكمة وبدائع التربية, مما سنبحث اليوم عن بعض دُرَرِه في إشارةٍ قاصرة وإطلالة عابرة إلى أن يقيّض الله له باحثا نجيبا وطالبا لبيبا يستخرج من أجزائه الأربعة المغازيَ التربوية فلعلّه يجمع في ذلك الخير الكثير ويجيء عمله في سفر كبير (والدالّ على الخير فاعله).
فأوّل ما يعتمده الحافظ الذهبي في نظراته التربوية لبناء تراجم [التذكرة] أن يرفع شأن أولئك الأخيار في ناظريْك ويعظّم أقدراهم لديك, حتى تنزلَهم منازلهم وتعرفَ لهم فضلهم. فهم أُمناء الأمة على دينها وشهودها على سلامة سنّتها كما قال الدارقطني (لا يُكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا حيٌّ) , فهم سلسلة الذهب والقلائد المشبّكة بالدُّرّ! كما أورد الذهبي في ترجمة مسدّد بن مسرهد قول أبي حاتم (أحاديثه عن القطان عن عبيد الله بن عمر كالدنانير كأنك تسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم)!
فمن ذلك ما أورده في ترجمة أبي الدّرداء عويمر بن زيد رضي الله عنه من قول ابن أبي مُلَيْكة: (سمعت يزيد بن معاوية يقول: إنّ أبا الدّرداء من الفقهاء العلماء الذين يشفون من الداء)، وقال في ترجمة أبي مسلم الخولاني: (الفقيه العابد الزاهد ريحانة الشام, الذي ألقاه الأسود العنسي في النار فنجا منها ... وله مناقب وكرامات, وكان يقال هو حكيم هذه الأمة رحمه الله) وقال في ترجمة عَبِيدة السَّلَماني: (الفقيه العَلَم كاد أن يكون صحابّيا .. )، وقال في ترجمة طاوس (كان شيخ أهل اليمن وبركتهم ومفتيهم, له جلالة عظيمة)، وقال في ترجمة صفوان بن سُلَيم: (الإمام أبو عبد الله, وقيل أبو الحارث الزهري مولاهم المدني الفقيه ... كان ثقة حجّة من أعلام الهدى. قال أبو ضمرة: رأيته لو قيل له الساعة غداً, ما كان عنده مزيد عمل. وقال أحمد بن حنبل: ثقة من خيار عباد الله يُستنزل بذكره القطر)، ومن ذلك ما ذكره في ترجمة مالك بن أنس أنه: (اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره: إحداها طول العمر وعلوّ الرواية, وثانيتها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم, وثالثتها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية, ورابعتها: تجمّعهم على دينه
¥