روى الإمام البخارى فى صحيحه عن عبدالرحمن بن أبى بكرة عن أبيه رضى الله عنه ذكر النبى صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه قال: أى يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. قال صلى الله عليه وسلم: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: فأى شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغيراسمه. قال: أليس بذى الحجة؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه)
المشبَّه: دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم المشبه به: يوم النحر وشهر ذى الحجة وجه الشبه: الحرمة.
أثر هذا التشبيه فى الدعوة إلى الله: معرفة حق المسلم على المسلم؛ لأن الأسلوب المستخدم فى إيصال هذه الحقيقة هو تشبيه حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بحرمة يوم النحر وشهر ذى الحجة، وتعظيمهما مسلَّم به بين الناس. قال الإمام القرطبى رحمه الله: (سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة - فى رواية صحيحة أخرى سأل عن اليوم والشهر والبلد - وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة مايخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دماءكم الخ ... مبالغة فى بيان تحريم هذه الأشياء)
قال الإمام ابن حجر فى الفتح: (مناط التشبيه فى قوله صلى الله عليه وسلم: كحرمة يومكم ومابعده: ظهوره عند السامعين؛ لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتاً فى نفوسهم مقرراً عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا فى الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم)
الحديث العاشر:
روى الإمام البخارى فى صحيحه عن أبى موسى رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: مثل مابعثنى الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هى قيعان لاتمسك ماء ولاتنبت كلأ. فذلك مثل من فَقِهَ فى دين الله ونَفَعَه مابعثنى الله به فعَلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به)
المشبَّه الأول: ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من الدين. المشبه به: الغيث الكثير وجه الشبه: حدوث التأثير.
المشبه الثانى: المخاطبون بما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم المشبه به: أنواع الأرض حين ينزل عليها الغيث. وجه الشبه: اختلاف الانتفاع وعدمه.
أثر هذا التشبيه فى الدعوة إلى الله: معرفة فضل الهدى النبوى وأن الناس يختلفون فى المنازل من جهة قبوله وأن المنتفع به أخذ بحظ وافر من الخير.
قال القرطبى رحمه الله: (ضرب النبى صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلاً - أى شبهه - بالغيث العام الذى يأتى الناس فى حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، فكما أن الغيث يحيى البلد الميت فكذا علوم الدين تحيى القلب الميت، ثم شبَّه السامعين له بالأرض المختلفة التى ينزل بها الغيث فمنهم العالم المعلِّم فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت فى نفسها وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره فهو بمنزلة الأرض التى يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولايعمل به ولاينقله لغيره فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التى لاتقبل الماء أو تفسده على غيرها)
والتشبيه البليغ فى هذا الحديث أرشدنا إلى أهمية التعليم وفضله على مجرد العلم.
وأعود للتأكيد على أن أسلوب التشبيه من الأساليب البلاغية الرفيعة ولاسيما إذا كان مركباً، وأنه يكون بليغ الأثر إذا كانت الوسيلة المصاحبة له وسيلة محسوسة مما يشغل حيزاً من اهتمام الناس ومشاهداتهم اليومية، وقد جاء أسلوب التشبيه فى الأمثلة التى ذكرتها من هذا القبيل فكان تأثيره قوياً وكان ذا قدرة فاعلة فى الإقناع وتحقيق الهدف المقصود من النص. وقد تحقق بهذا الأسلوب فوائد كثيرة ليس هذا مجال استقصائها. وإذا كان واجب الدعاة استلهام العبر والدروس من منهج النبى صلى الله عليه وسلم فى الدعوة إلى الله لأنه أكمل منهج وأوفاه؛ فإن استخدام الداعى أسلوب التشبيه فى الدعوة والموعظة بالحكمة والحسنى مئنة النجاح ومفتاح قبول المخاطبين بدعوته.
هذا وبالله التوفيق.
ـ[الدكتور إبراهيم]ــــــــ[25 - 07 - 03, 06:13 م]ـ
كم تمنيت أن أرى أخوتي الكرام يثرون موضوع الدراسات البلاغية للحديث النبوي الشريف بإبداعاتهم فهذه الدراسات كنوز تبحث عن مكتشف أو عن من يدني ثمارها البانعة إلى أذواق الناس ففيها خير كثير وفيها معانٍ جميلة تربطنا بالحديث النبوي بأوثق رباط.
فهلا استجبتم وأفدتم؟؟