فأمّا من سوّلت له نفسه درك البغية بمجرد المشامة والمطالعة، معتلاًّ بالنظر الأوّل، والخاطر السابق، والفكرة الأولى – مع تقسيم الخواطر، واضطراب الفكر، والتساهل في البحث والتنقير، والانفكاك عن الجد والتشمير - = فاحكم عليه بأنه مغرور مغبون!! وأخْلِق به أن يكون من أولئك الذين (لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون)!.
فصاحبُ هذه الحالة سيحكم – لا محالة – على لفظ الكتاب بالإخلال متى استغلق عليه، وعلى معناه بالاختلال متى لم يبثّ أسراره إليه.
وكم من عائب قولاً سليماً وآفته من الفهم السقيم
الشريطة الثالثة: الانفكاك عن داعية العناد، وضراوة الاعتياد، وحلاوة المألوف من الاعتقاد.
فالضراوة بالعادة مَخِيلة البلادة!
والشغف بالعناد مجلبة الفساد!
والجمود على تقليد الاعتقاد مدفعة الرشاد!
فمن ألِفَ فنّاً – علماً كان أو ظنّاً – نفر عن نقيضه، وتجافى عنه سمعه، فلا يزيدك دعاؤه إلا فراراً أو نفاراً، ولا يفيده ترغيبك إلا إصراراً واستكباراً.
ومن يك ذا فم مرّ مريض يجد مرّاً به الماء الزلالا
الشريطة الرابعة: أن يكون التعريج على هذا الكتاب مسبوقاً (بالارتياض بمناهج المحدثين، ومسالك النّقاد، مع إحاطة بأطراف هذا العلم، وكثرة الدُّربة والمران بمصنفات أهله) ".
أمّا بعد .. فإلى ما وعدتك به أيها الأخ الودود:
فَـ (مِنْ) مواطن القوّة والإبداع في هذا الكتاب:
1 - تتبّع المؤلف لمنشأ قول المخالف، والاستدلالُ له.
وهذه مهمّةٌ من مهمّات التحقيق والبحث المتجرّد، وعلامةٌ صادقةٌ على صحّة القصد، وسموّ الهمّة، ونُبلِ النفس.
إذْ ربّما قاد الباحثَ المنصفَ بحثُه في قول المخالف ودليله ومنشئِهِ = إلى الرجوع إليه، والانتصار له – بعد الإعراض عنه -، متى لاحت له حجّته، وأضاء برهانُه في قلبه!
يقول أبو المعالي الجويني بعد تنقيحه لمسألةٍ في "برهانه":
" فلينظر الناظر كيف لقطنا من كلّ مسلكٍ خياره، وقرّرنا كلَّ شيء على واجبه في محلّه، وهذه غايةٌ ينبغي أن ينتبه من يبغي البحث عن المذاهب لها؛ فإنه يبعد أن يصير أقوامٌ كثيرون إلى مذهبٍ لا منشأ له من شيء.
ومعظم الزّلل يأتي أصحاب المذاهب من سَبْقِهم إلى معنى صحيح، لكنهم لا يسبرونه حقّ سبره، ليتبيّنوا بالاستقراء أن موجبه عامّ شامل، أو مفصل.
ومن نظر عن نحيزةٍ سليمةٍ عن منشأ المذاهب = فقد يفضي به نظره إلى تَخيُّرِ طرفٍ من كل مذهب، كدأبنا في المسائل ".
قلتُ: وهذا هو الذي اجتهد المؤلِّف في سبيل تحقيقه!
فاستدلّ لقول المخالفِ حين ترك (المخالفُ) الاستدلال لنفسه!
ولقَّنَ بعضَ من تقلّد قول المخالف – على غير بيّنةٍ – حجّته (المنقوضة)؛ ليعرّفه أيَّ مهْيعِ زَلَلٍ سَلَك، وأيَّ نفسٍ ظامئةٍ ظَلََََم، وأيَّ نعمةٍ لم يحسن شكر الله عليها (العقل)!!
واجتَهدَ في درك سبب الخلاف ومَنْزَعِه حتى وقع عليه، فعلم بذلك وجه الخطأ، وتبيّن له – إذْ ذاك – كيف غَلِط في هذه المسألة من غلط!.
2 - التحرّر من مألوف مسائل العلم التي لم تثبت بنقلٍ مصدَّقٍ عن معصوم، ولا دلّ عليها دليل محقَّقٌ معلوم.
وهذه فاتحةُ الخير، وعنوان التوفيق، وبوابة التحقيق!
ومن دخل إلى المسألة يبحثها وقد استقر الحكم في ذهنه، وثبتت النَّتيجة في قلبه، فأيّ شيء يصنع هذا! فبالله قل له: لا يتعب!.
" وللاستشكال أسبابٌ، أشدُّها استعصاءً أنْ يدلّ النص على معنىً هو حق في نفس الأمر، لكنْ سبق لك أن اعتقدت اعتقاداً جازماً أنه باطل! " قاله ذهبيُّ عصره العلامة المعلميّ – طيّب الله ذكره -.
ولئن قاد ذلك المؤلف – لا زال موفّقاً لكل خير – إلى مخالفة جماهير المتأخرين في هذه المسألة، فَلْتعلم أنه ما جرّ الناس إلى الخطأ في هذه المسألة إلاّ التقليد!.
إمّا من إيثار الدَّعة والراحة – كبعض من تراهم من أهل عصرك -، أو من إحسان الظنّ بالمتقدّم – وذلك هو المظنون بأهل العلم رحمهم الله -.
يقول الإمام الحافظ أبو بكر الحازمي (ت: 584):
" وآفة العلوم التقليد!
¥