تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومنشأ ذلك إمّا من إيثار الدعة وترك الدأب، وإمّا حسن الظن بالمتقدم، ولعمري إنّ هذا القسم الثاني (يعني حُسنَ الظن) لحَسَنٌ، غير أن الاسترواح إلى هذا غير مستحسن؛ لأنه يفضي إلى سدّ باب الاجتهاد، والبحث عن مخارج الحديث وأحوال الرجال!! ".

3 - الإنصاف من النفس.

ورحم الله إمامك أبا عبدالله مالكاً حين قال – متوجّعاً من أبناء عصره، وأين أبناءُ عصره! -:

" الإنصافُ، ليس في النّاس أقلّ منه! " [ترتيب المدارك].

وقد ظهر إنصاف مؤلّف هذا الكتاب في مظاهر شتّى، منها تكلُّفه عناء إقامة الاستدلال لمذهب مخالفه، وذِكرُه ما يمكن أن يصلح دليلاً له، بل وحتى الشبه التي ربّما أمكن التعلّق بها!

فلم يكتفِ بإبراز أدلّة قوله ونقضِ ما ذكره مخالفه، حتى تكلَّفَ الاستدلال له، ثم نقضه نقضاً لا يجتمع بعده أبداً!

وتلك شِمَالةٌ تطربُ لها النفوس التي تعشق التحقيق!

4 - الجدِّيةُ في بحث مسائل العلم، واحترام عقول القرّاء.

فحين انتهى بالمؤلّف البحث إلى معنى قول المحدثين: (لا أعرف لفلان سماعاً من فلان) وقرّر بأدلّةٍ يُخضَع لها أنها تساوي (لم يسمع فلان من فلان) , وأنها تعني ترجيح عدم السماع لقرائنَ دالّةٍ عليه = سأل القارئ سؤالاً مهمّاً، ورجاه ألاّ يتجاوزه حتى يجيب عليه إن كان صادقاً في إرادته الوصول إلى الحق، ومُحِبّاً لأن يتمّ قراءته بفهم.

والسؤال – بصيغةٍ ربّما تكون أسهل (لمن أراد أن يتم القراءة بفهم!) -:

ما دام أنّ (لا أعرف له سماعاً من فلان) وهي حجة من زعم بأن البخاري يشترط السماع للاتصال = قد ثبت أنها بمعنى نفي السماع.

فكيف يستقيم إذنْ أن يُجْعل نفي العالِم للسّماع دليلاً على أنه يشترط السماع؟!

إنّما يستقيم الاستدلال بـ (لا أعلم له سماعاً) على اشتراط السماع إذا كانت هذه العبارة خبراً مجرّداً من العالِم يفيد أنه لا يعلم حصول السماع – فحسب -.

وهذا قد مرّ نقضه، وبيانُ أن هذه العبارة ليست خبراً مجرّداً يفيد عدم العلم بوقوع السماع، وإنّما هي ترجيحٌ لعدم السماع لقرائن دلت على ذلك.

يقول عبدالقاهر الجرجاني:

" ومن حقِّ المسائل الدقيقة أن تُتامَّلَ فيها العبارات التي تجري بين السائل والمجيب، وتُحقَّق؛ فإن ذلك يكشف عن الغرض، ويُبيّن جهة الغلط ".

5 - دقة الملاحظة، وعمق التحليل.

وهذه ركيزةٌ من ركائز البحث الناجح.

وكلُّ صفحةٍ في هذا الكتاب تشهد باتّصاف المؤلف بهذه الصفة الباذِخة.

أماّ جزالة الأسلوب، وصفاء الديباجة، وحُسْنُ الإبانة فأمرٌ لا أحسب أنّي بحاجةٍ إلى أن أدلّك عليه – أيها الأخ الأديب -، وليس يخفى عليك مثله إن شاء الله.

وأخيراً .. فإنّ في الكتاب مواضع تتجاذبها الأفهام، وتختلف فيها مدارك النظر، وإن كانت غير مؤثِّرةٍ على نتيجة هذا البحث المُشرق، وأنّى لها!

فمن ذلك: بيان المؤلف وتحقيقه في رأي أبي المظفر السمعاني في هذه المسألة، ومحاولتُه في التوفيق بين كلامِه في الموضعين المذكورَيْن هناك.

فإنه على وجاهة الفهم الذي ذكره فضيلته، إلا أنه قد عَنَّ لي فهمٌ آخر وطريقة أخرى في التوفيق بين كلامه، وأكاد أجزمُ بأنّ ذلك قد مرّ على خاطر المؤلف، فأنا أذكره ليَنْظُرَ فيه، فيُبيِّن لِمُحِبِّه ما الذي يُورَدُ عليه أو يدفعه.

(ولعلّ بعض الإخوة القريبين منه أن ينقلوا إليه هذا الإشكال، عسى أن يجود (وهو حاتم) على قرّائه ببيانٍ من رائق بيانه، وما أراه إلا سيفعل إن شاء الله).

الذي يظهر لي أن أبا المظفر السمعاني كان يتحدث في الموضع الأوّل (2/ 311 - 312) عن دلالة (عن) العرفية، وأنها تغني عن التصريح في كل حديث بالسماع أو التحديث، وظاهرُ كلامه - هناك – أن ذلك فيمن ثبت سماعه من شيخه، وأنه لا يُشتَرط فيه أن يصرّح في كل حديثٍ بالسماع.

ويؤيّد هذا الفهم تأمُّل قوله: (لأن الناس قد يفعلون ذلك طلباً للخفة؛ إذْ هو أسهل عليهم من أن يقولوا في كل حديث: حدثنا) , وهذا إنما يُقال فيمن يحقُّ له أن يقول: حدثنا , وهو من ثبت له السماع.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير