و يمكن الجواب من وجه آخر يدل على أن شريكا قد ضبط الحديث عن عاصم، وهو ما نقله البغدادي في" تاريخ بغداد" {682/ 9}، والذهبي في " ميزان الاعتدال" {270/ 2}:" قال سعدوية:إنه سمع عبد الله بن المبارك يقول: "شريك أعلم بحديث الكوفيين من سفيان [الثوري] "
وفي " تهذيب الكمال" {470/ 12} عن وكيع أنه قال:" لم يكن أحد أروى عن الكوفيين من شريك".
وهذه شهادة من إمامين عظيمين لا يخرج الكلام منهما إلا مخرج الحكم، لانهما في سياق المقارنة،وهما أعلم بهذه الطبقة ممن جاء بعدهم.
ومثل شريك في هذا الباب إسماعيل بن عياش، عن أهل الشام وثقوه وفي غيرهم ضعفوه.
ولذلك يجب أن نقول: إن ترجمة أمثال شريك يجب أن تكون على ضوء شيوخهم و بمتابعة طرق حديثهم.
قال ابن رجب في" شرح العلل" {ص:92}:" اعلم أن الرواة أقسام: فمنهم من يتهم بالكذب، ومنهم من غلب على حديثه المناكير لغفلته و سوء حفظه، وقسم ثالث: أهل صدق و حفظ و يندر الخطأ والوهم في حديثهم أو يقل، هؤلاء هم الثقات المتفق على الاحتجاج بهم، وقسم رابع: هم أيضا أهل صدق و حفظ ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيرا، لكن ليس هو الغالب عليهم، وهذا القسم الذي ذكره الترمذي هاهنا".
فهذه الطبقة و إن كان ترك الحديث عنهم مثل: يحي القطان، فقد حدث عنهم ابن المبارك،وابن مهدي، ووكيع بن الجراح، و أحمد بن حنبل، و البخاري، ومسلم، و أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، و ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي و أكثر أهل الحديث على أمور ضبطوها وقرائن اشترطوها."
ووجه آخر للجواب يمكن التعويل عليه:
إن الأحاديث الكثيرة التي رواها وائل بن حجر ـ رضي الله عنه ـ واصفا فيها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بدقة متناهية، وفي بعضها أنه كان يترقب صلاته، تستلزم ضرورة و صفه لكيفية الإهواء إلى السجود، وهي من أكبر حركات الصلاة للانتقال المصلي من حالة القيام إلى حالة القعود، وقد نقل رضي الله عنه من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أمورا هي أدق و أخفى من الإهواء، وجاء من طريقه عدة أحاديث في الباب، و إن كان المعارض يدعي تعليلها إلا أن ذلك قرينة أخرى على ضرورة وصفه الإهواء إلى السجود، فكان دليلا آخر على أن شريكا لم يخالف من هو أوثق منه.
الوهم ليس قادحا في جميع الأحوال:
إن راوي الحديث ممن وصف بالوهم إذا روى حديثا حكمه متعلق بفقهه، لم يضر الرواية وهمه العام، فإن العادة تغلب على الذاكرة، لكن إذا كان الحديث يتعلق بخبر لا يتعلق بفقهه، فالوهم هنا يصير جرحا مضعفا للحديث.
وهذا أمر معهود في غالب الناس يتعبد أحدهم بعبادة ينسى كيف تعلمها، ويحافظ عليها طول عمره، حتى إذا سئل عن دليلها بهت عنه، لبعد عهده به، و إنما طول التكرار جعله لا ينسى كيفية أدائها كما هو الحال في كثير من الشيوخ و العجائز.
والرواة الذين اختلطوا بأخرة لم نعلم عنهم أنهم اختلطوا في وضوئهم و صلاتهم، وغير ذلك مما هو من فقههم وعادتهم مع العلم أن الاختلاط أشد من الوهم.
وحديث شريك هذا مما يتعلق بفقهه، وهو مسلم يؤدي خمس صلوات في اليوم ناهيك عن النوافل،ولابد له من الإهواء إلى السجود.
فإن قيل: وما الدليل على أن هذا الحديث من فقهه؟
قلنا: نقل الحازمي في" الاعتبار" عن ابن المنذر أن الإهواء على الركب ذهب إليه أهل الكوفة،وشريك كوفي مثله مثل سفيان الثوري، وعبد الرحمان بن أبي ليلى، و أبي حنيفة وغيرهم.
وقد سكن الكوفة من الصحابة عبد الله بن مسعود،ووائل بن حجر و ثبت عنهم الإهواء على الركب، وسكنها علي، وصح عنه النهوض على صدور القدمين.
قال الدار مي في" السنن":" أهل الكوفة يختارون الأول [أي: الإهواء على الركب].
إن الرواي إذا وصف بأنه يهم أو يغلط، كان ذلك وصفا لبعض مرويا ته، وليس لجميعها و إلا أسقطوه بالكلية.
و إنما بتتبع أحاديثه يعلم في أيّها وهم، وبما مر عليك من تحقيق فإن شريكا لم يهم في هذا الحديث، فليكن الوهم في أحاديث أخر.
ومما يؤيد هذه القاعدة وهو مثال صالح عليها أن الثقات رووا حديث ترك الجمعة و اتفقوا في رواياتهم على أن من ترك ثلاث جمعات فقد جعل الإسلام وراء ظهره، بينما روى شريك أربع جمعات.
¥