تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وما أفضت لك في هذا إلا خشيةً عليك من حساب الله، أما الناس في هذا العصر فلا حساب لهم، ولا يقدّمون في ذلك ولا يؤخرون، فإن التربية الإفرنجية الملعونة جعلتهم لا يرضون القرآن إلا على مضض، فمنهم من يصرح، ومنهمم من يتأول القرآن والسنة ليرضي عقله الملتوي، لا ليحفظهما من طعن الطاعنين فهم على الحقيقة لا يؤمنون ويخشون أن يصرحوا فيلتوون وهكذا هم، حتى يأتي الله بأمره، فاحذر لنفسك من حساب الله يوم القيامة، وقد نصحتك وما آلوت والحمد لله.

وأما الجاهلون الأجرياء فإنّهم كثر في هذا العصر، ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم أن يكتب طبيب في إحدى المجلات الطبية فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه، وأنه ينافي علمه، وأنه رواه مؤلف اسمه البخاري، فلا يجد مجالاً إلا الطعن في هذا البخاري ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهو لا يعرف عن البخاري هذا شيئًا، بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه، إلا أنه روى شيئًا يراه هو بعلمه الواسع غير صحيح فافترى عليه ما شاء، مما سيحاسب عليه بين يدي الله حسابًا عسيرًا.

ولم يكن هؤلاء المعترضون المجترئون أول من تكلم في هذا، بل سبقهم من أمثالهم الأقدمون، ولكن أولئك كانوا أكثر أدبًا من هؤلاء. فقال الخطابي في "معالم السنن" رقم (3695) من "تهذيب السنن": وقد تكلم في هذا الحديث بعض من لا خلاق له. وقال: كيف يكون هذا؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أربها في ذلك.

قلت: (القائل الخطابي): وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، وإن الذى يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألّف بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التى بها بقاؤها وصلاحها لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزءين من حيوان واحد، وأن الذى ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحًا وتؤخر جناحًا لما أراد الله من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد، والامتحان الذي هو مضمار التكليف، وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذّكر إلا أولوا الألباب.

وأما المعنى الطبي فقال ابن القيم -في شأن الطب القديم- في "زاد المعاد" (ج3 ص210 - 211): واعلم أن في الذباب قوة سمية، يدل عليها الورم والحكة العارضة من لسعه، وهى بمنْزلة السلاح فإذا سقط فيما يؤذية اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية بالمادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا إلعلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية.

وأقول -في شأن الطب الحديث- إن الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب، وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب، ولا يكادون يرضون قربانه، وفي هذا من الإسراف -إذا غلا الناس فيه- شيء كثير ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم، وفي نومهم ويقظتهم، وفي شأنهم كله، وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة وغلو غلوًا شديدًا في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة، حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم لو أطاعوهم طاعة حرفيّة تامة، وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب، وتشرب فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر، ومن كابر في هذا فإنما يخدع الناس ويخدع نفسه، وإنا لنرى أيضًا أن ضرر الذباب شديد حين يقع الوباء العام لا يماري في ذلك أحد، فهناك إذن حالان ظاهرتان بينهما فروق كبيرة، أما حال الوباء فمما لاشك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب أشد التحرز، وأما إذا عدم الوباء وكانت الحياة تجري على سننها فلا معنى لهذا التحرز، والمشاهدة تنفي ما غلا فيه من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير