قال رحمه الله في فتوى أخرى: يجوز المسح على الزربول الذي يغطي الكعبين إذا ثبت بنفسه بلا شراع وإن كان لا يثبت إلا بالتزرير أو السيور يجوز المسح عليه أيضا فإنه يستر محل الفرض بنفسه وهكذا الجورب الذي لا يثبت إلا بالخيوط ولو ثبت بشيء منفصل عنه
[76]
كالجورب الذي لا يثبت إلا بالنعل فإنه يجوز المسح عليه سواء كان من لبد أو صوف أو قطن أو كتان أو جلود. ولا حاجة إلى اعتبار شروط لا أصل لها في الشرع ويعود على مقصود الرخصة بالإبطال) اه
وقال نور الله ضريحه أيضا في فتوى أخرى: يجوز المسح على اللفائف (1) وهو أن يلف على الرجل لفائف من البرد أو خوف الحفاء أو من جراح بها ونحو ذلك وهي بالمسح أولى من الخف والجورب فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة وفي نزعها ضرر إما بإصابة البرد أو التأذي بالحفاء وإما التأذي بالجرح فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين فعلى اللفائف بطريق الأولى اه
وقال نفع الله الأمة بعلومه في خلال فتوى له: معلوم أن البلاد الباردة يحتاج فيها من يمسح التساخين والعصائب - وهي العمائم - ما لا يحتاج إليه في أرض الحجاز فأهل الشام والروم ونحو هذه البلاد أحق بالرخصة في هذا وهذا من أهل الحجاز. ثم قال: فإن منعوا من المسح
المسح على الجوربين [جزء 1 - صفحة 77]
(1) أقول: اللفائف يشملها عموم حديث ثوبان المتقدم أنه عليه السلام أمرهم بالمسح على التساخين وقد أسلفنا أن التساخين لغة كل ما يسخن به القدم فتذكر. اه جمال الدين
[77]
عليها ضيقوا تضييقا يظهر خلافه للشريعة بلا حجة معهم أصلا. اه. كلامه عليه رحمة الله ورضوانه
الخاتمة
لا يخفى أن الرخص المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي نعمة عظمى في كل حال وعلى أي حال وإنما يظهر تمام نعمة تشريعها في بعض الأحوال مثل رخصة المسح على الجوربين في أيام البرد وأوقات السفر وحالات المرض أو تشقق القدم أو قشف الرجلين أو تورمهما مما يعرض كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم السرية الذين شكوا إليه ما أصابهم من البرد أن يمسحوا على العصائب والتساخين كما قدمنا وقال من صحب عكرمة رضي الله عنه إلى واسط (1): ما رأيته غسل رجليه إنما يمسح عليهما حتى خرج منها: رواه ابن جرير في تفسيره
وتقدم عن البدائع للقاساني أن أبا حنيفة رضي الله عنه رجع إلى قول أبي يوسف ومحمد في المسح على الجوربين في آخر عمره وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه
المسح على الجوربين [جزء 1 - صفحة 78]
(1) أي في سفره إليها. فتأمل ترخصه هذا في سفره. والسفر محل الرخص وأعجب من فقهه وعلمه رضي الله عنه
[78]
المسح على الجوربين [جزء 1 - صفحة 79]
ثم قال لعواده: (فعلت ما كنت أنهى الناس عنه) فاستدلوا به على رجوعه اه. ورجوع أبي حنيفة رضي الله عنه من فضله وإنصافه. وللمجتهدين من تغير الاجتهاد والرجوع إلى ما فيه قوة وسداد ما عرف عنهم أجمعين وعد من مناقبهم. ومن أكبر العبر - في هذه القصة - قصة رجوع الإمام أبي حنيفة - أن يرجع إمام ويصرح برجوعه ويأبى ألد الخصوم الرجوع للحق ولو تلي عليه من البراهين ما يلين له الحديد ويصدع الجلاميد ولا غرو فالأئمة المجتهدون لهم من اللطف والكمال ومحاسن الأخلاق والإنصاف والاعتراف بالحق ما سارت به الركبان
وليعتبر أيضا بالإمام الشافعي لما رحل من العراق إلى مصر وأعاد البحث في مذهبه القديم كيف رجع عن كثير من مسائله وعد ذلك من أسمى فضائله وسبب ذلك التقوى وإيثار الأخرى فإنها تزع المتقي عن إيثار الهوى والدنيا. وهكذا فعل الإمام أبو حنيفة في رجوعه إلى القول بالمسح على الجوربين
وقد يظن قوم أن التشدد في العزائم ومجافاة الرخص من التقوى وحاشا لله كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في
[79]
الصوامع والديار {رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} (1) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(صحيح) (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) (2) وعنه صلى الله عليه وسلم:
(ضعيف الإسناد) (إن الله تعالى يحب أن تقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه) (3) وقال صلى الله عليه وسلم:
¥