الأمر الأول: المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار مساحة الأرض هو استصحاب العكس أو الاستصحاب المقلوب:
وحقيقته: ثبوت أمر في الزمن الماضي بناء على ثبوته في الزمن الحاضر، وهو حجة، وهذه المسألة مدار البحث ـ في نظر هؤلاء العلماء ـ من المسائل المندرجة تحت هذا النوع، إذ أن هذه المواضع المشاهدة هي متحددة الآن، والأصل أنه لم يطرأ عليها أي تغيير، فثبت لها ذلك في الزمن الماضي بناء على ثبوته في الوقت الحاضر (21).
والجواب عن هذا المستند وهو استصحاب العكس من وجهين:
الوجه الأول: أن الاستدلال باستصحاب العكس أو بالاستصحاب المقلوب محل خلاف بين أهل العلم، والقائلون به وهم الشافعية لم يقولوا به إلا في مسألة واحدة، قال السبكي (22) " ولم يقل به الأصحاب إلا في مسألة واحدة، وهو ما إذا اشترى شيئاً فادعاه مدع وانتزعه منه بحجة مطلقة فإنهم أطبقوا على ثبوت الرجوع على البائع، بل لو باع المشتري أو وهب وانتزع من المشترى منه أو الموهوب له كان للمشتري الأول الرجوع أيضا فهذا استصحاب الحال في الماضي " (23)
واعترض عليه العراقي (24) فقال " وعدم الرجوع وجه مشهور؛ وكان شيخنا الإمام البلقيني (25) يرجحه، ويقول إنه الصواب المتعين والمذهب الذي لا يجوز غيره " وأطال ـ العراقي ـ في إظهار أن نصوص الشافعية على خلاف ما قاله السبكي، وقال أيضا في رده على السبكي إن " ظواهر نصوص الشافعي وكلام الأصحاب يبطله " (26)
وقال ابن دقيق العيد عن الاستدلال باستصحاب الحاضر في الماضي: " وهذا وإن كان طريقاً، كما ذكرنا، إلا انه طريق جدل لا جلد، والجدل طريق في التحقيق سالك على مَحجّ مُضيّق، وإنما تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع، فأما إذا استوى الأمران فلا بأس " (27)
قال الزركشي (28) " وأما الفقهاء فظاهر قولهم إن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن منافاة هذا القسم. (29)
الوجه الثاني: لا نسلم أن هذه المسألة مندرجة تحت استصحاب العكس، أو الاستصحاب المقلوب، وذلك أن موضع الرمي معلوم، ولكن مساحته غير محددة لا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ولا بعد ذلك، والجدار الموجود على الحوض محدث بعد عام ألف ومائتين واثنين وتسعين 1292هـ ـ كما سبق ـ فأين الحدود والمساحة الثابتة في هذا العصر حتى يقال باستصحاب العكس، ولو وجدت حدود فمن الذي يجزم بأنها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأنها لم تتغير إلى الآن، علماً بأن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن، لا أن يقال بتقدمه بدون دليل.
الأمر الثاني: قالوا لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي، ومستند المنع هو قاعدة سد الذرائع؛ إذ أن بناء هذا الحوض يؤدي إلى التباس المرمى على الناس فيرمون فيه، والرمي ممتنع، لأن هذه القطعة ليست من المرمى. (30)
والجواب عن الاستدلال بقاعدة سد الذرائع من وجوه:
1 - أن الحوض الموجود الآن محدث، ولا نعلم في أي جزء من مساحة الحوض رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه حتى نلزم الناس أن يرموا في نفس الموضع، وأين الدليل على أن كل مساحة الحوض محل للرمي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن ما كان خارج الحوض وقريب منه حكمه حكم الحوض الموجود إذ لا فرق بينهما.
2 - أن خلاف العلماء في محل الرمي دليل على أن المساحة غير محددة، وإلا لما حصل هناك خلاف.
3 - إذا قيل بأن الرمي إلى مجتمع الحصا فإن الحصا في هذه الأزمنة يتجاوز الأحواض الموجودة، ولا يمكن إزالته مع وجود هذا العدد الكثير من الحجاج، والقول بأن هناك مساحة محددة لا يجوز تجاوزها يقتضي إبطال رمي من تجاوزها حتى وإن كان إلى مجتمع الحصا.
4 - أن ما قارب الشيء يأخذ حكمه (31)، وحينئذ فلا مانع أن يوسع الحوض، ويكون حكم من رمى فيه حكم من رمى قريباً من مجتمع الحصا بدليل أن المسجد الحرام كان في الزمن السابق ضيقاً ولما وسع أخذت التوسعة حكم المسجد.
¥