أما محمد بن قدامة الجوهري صاحب الإمام أحمد فلعله أبو جعفر اللؤلؤي فله أحاديث تشبه هذا في بعض الفضائل كما أنهم ذكروه فيمن يروي عن مبشر الحلبي ولم أجد غيره باسم مقارب يروي عنه وهو من طبقة شيوخه فإن كان هو هو فلا يحتج به، وإلاّ فهو مجهول، وليست الآفة في خبر ابن عمر منه لرواية ابن معين التي مضت الإشارة إليها وغيره له، ولكن في القصة التي نقلت عن الإمام.
أما أصل الأثر عن ابن عمر فلعل الآفة فيه من عبدالرحمن بن العلاء بن اللجلاج فهو مجهول وحسبك أن أبا زرعة لم يعرفه إلاّ من حديث له عند الترمذي عن أبيه، وقد حكم ابن حجر بأنه مقبول فلايحتج به إلاّ إن توبع وإلاّ فلين–كما قرر في أول التقريب حول اصطلاح المقبول- ولم يتابعه في هذا أحد، والله أعلم.
وعليه فإن القول برجوع الإمام أحمد عن قوله بمثل هذا محل نظر، لأمور:
أولها لأن الخبر عن ابن عمر لا يثبت ومثل جهالة عبدالرحمن بن العلاء لا تخفى على مثل الإمام أحمد. والعبادة لاتشرع إلاّ بحجة ثابتة.
وثانيها لأن الراوي لخبر روجوع الإمام أحمد -لا أصل الخبر عن ابن عمر- هو محمد بن قدامة الجوهري اللؤلؤي وهو ضعيف لا يحتج به، والراوي عن الجوهري وهو عثمان بن أحمد الموصلي حاله أقرب للجهالة. فمجهول يروي عن ضعيف عمرك الله كيف يعارض بخبرهما ما ثبت عن الإمام؟
وثالثها لأن هذا يخالف المحفوظ المنقول عن الإمام من نهيه عن الفعل. قال أبو داود في مسائله: سمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر، فقال: لا.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن القول بأن هذا الفعل بدعة هو الذي نقله عن الإمام الجماعة، وهو قول جمهور السلف، وعليها قدماء أصحابه. وإذا تقرر هذا فإن الإمام أبوبكر أحمد بن محمد بن هارون المعروف بالخلال –وإن كان هو جامع علم الإمام- إلاّ أنه لم يأخذ عن الإمام مباشرة (ولد 234 ومات 311) فقد كان صغيراً عند وفاة الإمام ابن سبع أو ست سنين. وجمعه لعلمه بالواسطة خلافاً للمتقدمين من أصحاب الإمام أحمد وهم على خلافه في هذه المسألة كما ذكر شيخ الإسلام.
ولم ينقل أمر بالقراءة عن الصحابة في غير هذا الأثر الذي لايثبت عن ابن عمر رضي الله عنه، مع أن بعض وصايا الصحابة رضوان الله عليهم عند دفنهم أو موتهم قد نقلت فذُكر أمرهم بالدعاء والوقوف ولم تذكر القراءة.
وأما الأثر الآخر المنسوب للإمام أحمد فذكره ابن قدامة كما تفضلتم قال رحمه الله في المغني: ولا بأس بالقراءة عند القبر، وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا دخلتم المقابر اقرءوا آية الكرسي وثلاث مرات قل هو الله أحد، ثم قل: اللهم إن فضله لأهل المقابر.
هذا الأثر رواه العلامة الثقة أبوبكر عبدالعزيز بن جعفر إمام الحنابلة المعروف بغلام الخلال (285 - 363) -ووارث علم أبي بكر الخلال- في كتابه الشافي، قال قال محمد بن أحمد المروروذي سمعت أحمد بن حنبل يقول وذكره.
وهذا الرجل أعني المروروذي يذكر في أصحاب أحمد وقد وثقه أبوبكر الخلال وذكر أبو يعلى وغيره أن الخلال ذكره بجميل.
ولعل توثيق الخلال له لايعول عليه كثيراً فقد صدر عن واسطة ثقة عنده مجهول لغيره! فقد قال كما عند أبي يعلى في طبقات الحنابلة: روى عن أبي عبدالله مسائل لم تقع إلى غيره. [وهذا كفيل وحده عند الباحثين بوضع علامات استفهام فكيف لم تقع لغيره وهو ليس من متقدمي أو مشاهير أصحاب أحمد وملازميه]، ثم قال الخلال: ثقة من أهل مرو الروذ سمعت عنه من بطل ثقة من أهل أصبهان وذكروه بجميل.
فمثل هذا التوثيق المبني على توثيق مجهول محل نظر. فكيف وقد تكلم ابن عدي في محمد بن أحمد المروروذي هذا وقال: "يضع الحديث ويلزق أحاديث قوم لم يرهم على قوم ليست عندهم، سمعت أبا عروبة يقول: لم أر في الكذابين أصفق وجهاً منه! " ولعل الخلال –كغيره- يتساهل في توثيق من لم يعلم فيه جرحاً، فقد وجدته يوثق رجالاً لم يوثقهم غيره.
والخلاصة لايظهر مما سبق صحة نسبة القول بتلك الفعلة بتلك الصفة المروية هنا إلى الإمام أحمد؟ وهي إلى أعمال المحدثين أقرب، ولئن فعله الإمام فما ثبتت به حجة ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، والله أعلم.
شيخنا الكريم هذا الكلام يمليه علي صريح الحب وواجب النصح، ولم يزل الطلاب يراجعون مشيختهم، ولاسيما إذا كان الأشياخ مثلكم متسعة آفاقهم، واسعة صدورهم.
¥