كما أن الاجتهاد أيسر في هذه الأزمان من أي وقت مضى، وقد وقع التشديد في شروط الاجتهاد فوضعت شروط لم تجتمع في من لم ينازع في أنهم أعظم المجتهدين من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة المتبوعين. وقد بين خطأ هذا المنزع أئمة الإسلام المحققين، فقال الصنعاني رحمه الله: الحق الذي ليس عليه غبار الحكم بسهولة الاجتهاد في هذه الأعصار وأنه أسهل منه في الأعصار الخالية لمن له في الدين همة عالية، ورزقه الله فهما صافيا وفكرا صحيحا ونباهة في علمي الكتاب والسنة. ونقل الصنعاني عن الإمام محمد بن إبراهيم ابن الوزير رحمه الله في كتابه القواعد قال: اعلم أنه قد كثر استعظام الناس في هذا الزمان الاجتهاد واستبعادهم له حتى صار كالمستحيل فيما بينهم، وما كان السلف يشددون هذا التشديد العظيم وليس هو بالهين، ولكنه قريب مع الاجتهاد أي في تحصيله وصحة الذوق والسلامة من آفة البلادة.
وقال الشوكاني رحمه الله: فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سويّ.
وقال أيضا في البدر الطالع: والذي أدين الله به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم كتاب الله بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون كالصحيحين وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة أو جمعوا بين الصحيح وغيره مع البيان لما هو صحيح ولما هو حسن ولما هو ضعيف وجب العمل بما كان كذلك من السنة،…إلى أن قال: فالحاصل أن من بلغ في العلم إلى رتبة يفهم بها تراكيب كتاب الله ويرجح بها بين ما ورد مختلفا من تفسير السلف الصالح ويهتدي به إلى كتب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح وما ليس بصحيح فهو مجتهد…".
ودعوى غلق باب الاجتهاد مخدر قوي للفقه الإسلامي ولذا قال السيوطي رحمه الله في كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض: جميع الفقهاء متفقون على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر، واجب على أهل كل زمان، يقوم به بعضهم، وأنه متى قصر فيه أهل عصر أثموا كلهم".
"ولكنك تعجب من بعض المقلدة الذين أوجبوا على أنفسهم تقليد المعين واستروحوا إلى أن باب الاجتهاد قد انسد وانقطع التفضل من الله به على عباده، ولقنوا العوام الذين هم يشاركونهم في الجهل بالمعارف العلمية ودونوا لهم في معرفة مسائل التقليد بأنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها، والعجب لا ينقضي من سدهم باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه لا سبيل إلى ذلك ولا طريق، حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت والعقول الإنسانية قد ذهبت ... وكأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب الله وسنة رسوله قد صارت منسوخة والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين الله فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة ... وكأنه لم يبق في أهل هذه الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة ... ولازم قولهم أن الله تعالى لا يتمكن من أن يخلق خلقا يفهمون ما شرعه لهم".
ومما يقوي تيسر الاجتهاد أن تجزأ الاجتهاد جائز، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. واستدلوا بما يلي:
• لولم يتجزأ الاجتهاد للزم منه أن يكون المجتهد عالما بجميع الجزئيات وهو محال.
• أن الأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم كانوا يُستفتون فيجيبون في البعض ويتوقفون في البعض الآخر. ومع ذلك لم يُنازع في كونهم في أعلى درجات الاجتهاد.
• قال شيخ الإسلام: الاجتهاد منصب يقبل التجزؤ والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز، وقد يكون الرجل قادرا في بعض عاجزا في بعض، ولكن القدرة على الاجتهاد لا تكون إلا بحصول علوم تفيد معرفة المطلوب، فأما مسألة واحدة في فن فيبعد الاجتهاد فيها.
• قال ابن دقيق العيد: وهو المختار لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد.
8. والإجماع على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه. كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
9. إن إلزام القضاة أن يحكموا بما اختير لهم مما يسمى القول الراجح عند من اختاره يقتضي أن يحكم القاضي بخلاف ما يعتقد و لو في بعض المسائل و هذا غير جائز و مخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه و سلم و خلفائه الراشدين و من بعدهم من السلف الصالح و يسبب التحول عن سبيلهم، و لقد سبق أن وجدت هذه الفكرة في خلافة بني العباس و عرضها أبو جعفر المنصور على الإمام مالك - رضي الله عنه - فردها و بين فسادها فهي فكرة مرفوضة لدى السلف، و لا خير في شيء اعتبر في عهد السلف من المحدثات.
10. إن إلزام القضاة أن يحكموا بما يدعى أنه القول الراجح فيه حجر عليهم و فصل لهم في قضائهم عن الكتاب و السنة و عن التراث الفقهي الإسلامي و تعطيل لهذه الثروة التي هي خير تراث ورثناه عن السلف الصالح و في ذلك أيضا مخالفة صريحة لما دل عليه كتاب الله تعالى من وجوب الرجوع فيما اختلف فيه من الأحكام إلى الكتاب و السنة، و إن عدم الرد إليهما عند الاختلاف ينافي الإيمان بالله تعالى قال سبحانه: ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر)).
11. إن في التدوين والإلزام فتح باب لتغيير الأحكام الشرعية فسدا لذريعة الفساد، و محافظة على البقاء في التحاكم إلى شريعة الله، و إبقاء على إظهار شعار أمتنا الإسلامية يجب علينا أن نفكر في طريق آخر للإصلاح سليم من العواقب الوخيمة.
يتبع ...
¥