الأوّل: استصحبوا الأصل الذي في البيوع حيث تمسّكوا به، وهو لزوم البيع، والخيار ينافي هذا الأصل ويعود عليه بالبطلان.
واستدلّوا على الأصل الذي استندوا إليه:
أ ـ بقوله تعالى:?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ?، وبقوله تعالى: ?وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ?، وقوله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ?.
فالآية الأولى: أوجبت الوفاء بالوعد الذي هو الإيجاب والقَبول في البيع لأنّ الأمر بالوفاء يقتضي أمرًا حصل وهو عقد البيع مثلاً فكان لازمًا فلا خيار إلاّ بشرط أو عيب أو غَبن.
أمّا الآية الثانية: فإنّ الله عزّ وجلّ أمر بالتوثّق بالشهادة حتى لا يقع التجاحد في البيع وهذا إنّما يتمّ ما إذا كان على سبيل الوجوب.
أمّا الآية الثالثة: فإنّ بعد الإيجاب والقَبول تصدق أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم وغير متوقّفة على التخيير فهي صفقة لازمة.
ـ وأجيبَ: أنّ هذا لا يعارضه إلاّ مع توهّم العموم فيه والأَوْلَى أن ينبني هذا على هذا.
ب ـ أمّا من السنّة: فبقوله صلى الله عليه وسلَّم: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلاَّ أَن تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ».
فوجه الاستدلال: أنّه لو كان له الفسخ قبل التفرّق جبرًا وحتمًا لم يحتج إلى أن يستقيله. ومعنى الاستقالة عندهم في هذا الحديث: هو ترك المبيع لبائعه بثمنه. ولا تحمل الاستقالة على الفسخ لأنّ ذلك بعيد عن مقتضاها في اللسان.
ـ أجيب: أنّ الأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز.
وقال آخرون: لعلّ المراد به الاستحثاث على قَبول استقالة أحد المتبايعين وابتعاده بالفسخ، وتكون الإقالة في المجلس سنّة بهذا الحديث، وبعد الافتراق من المجلس تفضيلاً واستحبابًا.
ج ـ أمّا القياس: فإنّهم قاسوه على النّكاح والخلع والعتق على حال الكتابة بجامع عقود معاوضة ـ وعلى ما بعد التفرّق من المجلس فلا يردّ إلاّ بعيب أو غبن أو شرط.
والحاصل أنّ الخيار لو ثبت للزم إبطال هذه النصوص وهذا محال والمخلَص من هذا كلّه أن نقول: تمام العقد يكون قبل الافتراق بالأبدان ويقتصر فيه على الإيجاب والقبول إذ التراضي لا يتمّ إلاّ به شرعًا فثبتت الملكية لكلّ واحد منهما فإذا كان الفسخ من أحدهما بعد الإيجاب والقبول فهو إبطال لحقّ الآخر بلا رضاه فلا يجوز.
أمّا المسلك الثاني: فإنّه يتمثّل في ردّ الحديث الْمُثبِت لخيار المجلس بذكر الاعتذارات في عدم الأخذ به ونجملها فيما يلي:
الطريق الأوّل: جعلوا حديث ابن عمر رضي الله عنه مرجوحًا وقدّموا عليه ما هو راجح.
أ ـ مخالفته للأصل وقد مضى في المسلك الأوّل.
ب ـ بحديث النهي عن بيع الغَرر ووجه الدلالة منه أن قالوا: كلّ واحد منهما لا يدري ما يحصل له على الثمن أو المثمون.
أجيب: أنّه شابه خيار الشرط الذي يكون بعد الافتراق وعليه يمكنه إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو بالفعل فلا غرر.
جـ ـ وبحديث أبي داود مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم: «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالقَوْلُ مَا يَقُولُ صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَوْ يَتَرَادَّانِ»، وقوله صلى الله عليه وسلَّم: «أَيُّمَا بَيِّعَيْنِ تَبَايَعَا فَالقَوْلُ قَوْلُ البَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ» رواه مالك.
ووجه الدلالة منهما: هو أنّه محمول على عمومه وذلك يقتضي أن يكون في المجلس وبعد المجلس ولو كان المجلس شرطًا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لأنّ البيع لم ينعقد بعد ولا لزم بل الافتراق من المجلس.
أجيب: إنّما يصحّ على توهّم العموم فيه والأَوْلى أن ينبني هذا على هذا.
د ـ الإجماع: حيث قالوا حديث المثبت للخيار أعني خيار المجلس هو آحاد أي: من الخبر الواحد لا المتواتر، والعمل مقدّم عليه، فإنّ تكرّر البيع عندهم معروف فعدم العمل بخيار المجلس بين أظهرهم يدلّ على عدم مشروعيته دلالة قاطعة، والقطع مقدّم على الظنّ بل نقلوا إجماع أهل مكّة (1) لأنّ من تقدّم لا يتّهمون بمخالفة هذا الحديث إلاّ أنّهم علموا الناسخ له فتركوه لأجله.
¥