[خيار المجلس للشيخ محمد بن مكي الجزائري]
ـ[بلال اسباع الجزائري]ــــــــ[09 - 05 - 08, 12:12 م]ـ
إنّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد:
لمّا كان التعاقد مع الآخرين وليد الحاجة إلى المعاملات لكونها ضرورة اجتماعية لا غنى عنها فقد جعل الشرع الأصل فيها الحلّ والإباحة فلا يمنع منها إلاّ ما حرّمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم على حسَب ما تقرّر في علم الأصول فيكون البيع والإجارة وغيرهما من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب، واللباس منها.
فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون ما لم تحرّم الشريعة، وكذا في الأكل والشرب، إلاّ أنّ البيع قد يقع خاليًا من المنهيات التي تخرم القاعدة فيكون حلالاً لكن قد يكون سببًا للإيقاع في الندم. والندم يحوج إلى النظر ومن هنا شرعت الخيارات في العقود اللازمة فتصبح قابلة للفسخ بتراضي الطرفين.
والحكمة في ذلك أعني في مشروعية الخيارات تكمن في المحافظة على مصلحة المتعاقدين وضمان رضاهما ودفع الضرر الذي يلحق بأحدهما أو بهما ولذلك جعل الشارع للعاقد فرصة يحتاط فيها لنفسه لاستدراك ندم يشتركان فيه، فوجب إمّا بالشرع كخيار المجلس وإمّا بالشرط كخيار الشرط إذا كان الخيار للمتعاقدين جميعًا.
والخيارات في الشريعة الإسلامية أنواع متعدّدة حتى أوصلها بعضهم إلى سبعة عشر خيارًا كما هي مبسوطة في كتب الفقه للمذاهب السنّيّة كخيار المجلس، والشرط، والغَبن، والعَيب، والتدليس، والنجش، وحاضر لِبَادٍ، وتلقّي الركبان، وخيار القَبول، وخيار اختلاف المتبايعين، والتعيين، والرؤية، والنقد، والوصف، والخيانة، والتعدية ... إلخ.
إلاّ أنّ جميعها ترجع إلى خيارات أربع: مجلس، وشرط، وغَبن، وعَيب، وعليه فنقتصر في هذا العدد على ذكر حكم خيار المجلس بعدما نقوم بتعريفه لغة وشرعًا فنقول:
خيار المجلس: كلمةٌ مركّبة من خيار ومجلس، فإضافة الخيار إلى مجلس إضافة حقيقية، إذ الغرض منها نسبة الخيار إلى المجلس فأفادت التعريف للخيار. كما أنّها جاءت بمعنى «في» فيكون المجلس ظرفًا للخيار فالمعنى أنّ الخيار في المجلس فأفادت مكان الخيار أيضًا.
والخيار معناه لغةً: اسم مصدر من خار فهو خائر وخير منك وأَخْيَر بمعنى أفضل وقد يكون بمعنى خلاف الأشرار وكذا خار الشيء اختاره إذا انتقاه.
والمجلس مكان تواجد المتعاقدين إلى حين التفرّق.
والخيار شرعًا: هو طلب خير الأمرين بين إمضاء البيع أو فسخه، بسبب المجلس.
والمراد به مجلس العقد حين التفرّق وعليه فالمسألة هي: هل يثبت الخيار في المجلس لكلّ من المتعاقدين بعدما يتمّ البيع؟ فيحقّ لكلّ واحدٍ منهما أو لهما إمضاء البيع أو فسخه ما دامَا في المجلس أم أنّه يلزم البيع ولا خيار لهما؟
هذا ما نحاول بيانه:
ـ إذ ذهب جمهور المالكية والحنفية إلى عدم ثبوت خيار المجلس.
ـ وذهب جمهور الشافعية والحنابلة إلى ثبوت خيار المجلس وبه قال ابن حبيب، وعبد الحميد السيوري والمازري، وابن عبد البرّ، وابن رشد الحفيد من المالكية فعندهم أنّ خيار المجلس يثبت بمجرّد مقتضى العقد مستدلّين بقوله صلى الله عليه وسلَّم: «المُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ [لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ] مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الخِيَارِ».
وقولِه صلى الله عليه وسلَّم: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَفْقَةُ خِيَارٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ».
ووجه الدلالة ظاهرة وذلك أنّ: الرسول صلى الله عليه وسلَّم أثبت الخيار للمتبايعين مدّة جلوسهما معًا إلى أن يتفرّقا بأبدانهما وهذا هو عمدة القائلين بثبوت خيار المجلس.
وهذا المفهوم لخيار المجلس عمل به عبد الله بن عمر، وحكيم بن حزام، وأبو برزة الأسلمي، وسمرة بن جندب وأبو هريرة، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن مسعود.
أمّا استدلال المالكية والحنفية فيما ذهبوا إليه وهو عدم ثبوت خيار المجلس فإنّ كتبهم نجدها سلكت فيه مسلكين:
¥