تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أمّا ادّعاء اللحن في الحديث فهو باطل، لأنّه إذا أريد به اللحن الذي هو من قبيل الخطأ في الإعراب بحيث لا يُمكن تخريجه على وجه من الوجوه أو على بعض لغات العرب، فهذا ما لا يوجد في الحديث، وإن أُريد أنّ أصل اللحن من الرواة، فإنّه إذا جاز إسقاط الحديث من دائرة الاحتجاج لأنّ الرواة يلحنون به، جاز إسقاط غيره لأنّ البعض يلحنُ به، وذلك أمر خطير لأنّه ينسحب إلى جميع مفردات الثقافة الإسلامية فيسقطها من الأساس.

هذا مع أنّ التشديد على دقّة اللفظ والمعنى وتواصل الإسناد ومعرفة الرجال، وغيرها من الضوابط المعروفة في علم الحديث، هي أقلّ مراعاة في رواية الشعر وغيره من الفنون الأدبية، ومن هنا كان الشعر أكثر تعرّضاً للحن والانتحال والتغيير من الحديث الشريف، فإذا كان اللحن عاملاً لإخراج الحديث عن دائرة الاحتجاج اللغوي، فالأولى إخراج غيره لشيوع اللحن فيه ولانعدام الضوابط التي تُعنى بالدقّة في النقل والتوثيق والدراية ومعرفة الصحيح من السقيم.

وكان بعض رواة الشعر معروفاً بكثرة اللحن والانتحال، ومع ذلك فقد أكثر النحاة من الاحتجاج بمرويّاتهم، ولم يكن اللحن وازعاً يحدّ من ذلك الاحتجاج،

ومن هؤلاء حماد الراوية الذي كان يلحن [48] ويكسر الشعر ويصحّفه [49]، وكان هو وخلف الأحمر معروفين بانتحال الشعر، فقد كانا يضعان الشعر ويدسّانه في أشعار المتقدّمين، ومع ذلك فقد أخذ عنهما نحاة البصرة والكوفة [50].

ومن ثمّ فإنّ وجود الرواة العرب الأقحاح من الرعيل الأوّل دون غيرهم في كمٍ هائل من الأسانيد الموصلة إلى مَعين الحديث وأصله الشريف، يؤكّد وضوح فساد تلك العلّة، فمن غير المعقول أن لا يعلم النحاة بكلّ هذا في الوقت الذي أقتبسوا فيه المنهج السندي وللمحدّثين في دراساتهم اللغوية والنحوية.

ومن هنا يمكن القول بأنّ الذرائع التي نسبها متأخّرو النحاة لمتقدّميهم بشأن عدم احتجاجهم بالحديث الشريف، واهية لا تصمد أمام النقد العلمي، ولا يمكن أن نعتمدها في بيان سرّ إعراضهم عن الحديث الشريف في مجال استشهاداتهم اللغوية والنحوية.

والسبب الذي نراه وراء حصر احتجاجاتهم بشعر العرب ونثرهم، إنّما هو يصبّ في خدمة الشريعة الغرّاء قرآناً كانت أو سنّةً، ويمكن توضيحه من خلال معرفة الغرض الحقيقي الكامن خلف سعي النحاة واللغويين الدؤوب في تتبّع ما يصحّ الاستدلال به من شعر العرب ونثرهم، إذ لا يمكن أن يكون عبثاً أو لهواً، وعليه لابدّ أن يكون الغرض عظيماً يفوق الجهود المضنية المبذولة في تتبّع ما قاله العرب الأقحاح شعراً ونثراً.

ولا يمكن أن يقال إنّ الغرض هو صيانة اللغة العربية من الضياع بعد أن شابها ما شابها من مزيج مختلط، ذلك لوجود الحارس الأمين الخالد على تلك اللغة وهو

القرآن الكريم بسوره وآياته وألفاظه وحروفه التي لا ولن يعتريها تبديل أو تغيير أو نقص أو زيادة.

ومع هذا لا ينكر ما تضمّنه القرآن الكريم من لغات العرب الفصحى وإن نزل بلغة قريش، كما لا ينكر ما فيه من مفردات لغوية تتّسع لأكثر من معنى، وتراكيب إعرابية تحتمل أكثر من تأويل، ولهذا اختلف الصحابة أنفسهم في الكشف عن معاني بعض الآيات القرآنية، وكان اختلاف التابعين بعدهم أكثر، ونظرة واحدة إلى تفسير الطبري تكشف عن هذا الاختلاف بكلّ وضوح.

وأمّا عن الحديث الشريف، فإنّ كثيراً منه قد صدر بلفظه عمّن هو أفصح من نطق بالضاد رسول الله صلّى الله عليه و آله، وقد تضمّن من المفردات الفصيحة التي صارت فيما بعد محلاً للنزاع على مستوى العقيدة والأحكام، لانطباقها على أكثر من معنى، ومن هنا برز النحاة ليضعوا ـ ما استطاعوا ـ حدّاً فاصلاً لتلك الاجتهادات التفسيرية، لكي تحرس الشريعة ويسهل فهمها على الآخرين خصوصاً وأنّ الغرض الأساس الذي اندفع نحوه رائد النحو الأوّل أمير المؤمنين عليه السّلام وبعده تلميذه الدؤلي كان لخدمة القرآن الكريم وتسهيل نطقه كما أُنزل وفهمه كما أُريد.

وإذا صحّ هذا الغرض كما نراه، تبيّن السرّ في لجوئهم إلى نثر العرب وشعرهم دون نصوص الشريعة الغرّاء التي بذلوا الجهد في حراستها عن طريق أفصح لغاتها، بمعنى أنّهم أرادوا الدفاع عن نصوص الشريعة وحراسة وتسهيل فهمها من طرق اُخرى هي محلّ اتّفاق الناطقين بالضاد، والدفاع عن الشي ء لا يكون بالشي ء نفسه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير