[جاذبية نجد]
ـ[السلامي]ــــــــ[01 - 11 - 03, 02:14 ص]ـ
أستسمح المشرف الكريم في نقل الموضوع هنا لطرافته ولا بد لحملة الشريعة من الشركة الأدبية ..................
جاذِبيَّةُ نَجْد ـــ محمود مفلح البكر*
لكل
بلاد جاذبيتُها الخاصة التي تشدّ سكانَها، وتهيج مشاعرهم حنيناً إليها إذا ما أبعدوا عنها، وشوقاً لرؤية معالمها، ومعاشرة ناسها، والاقتراب من ظل الأحبة فيها.
لكن جاذبية نجد كانت مميزة عما سواها، وكان أهل نجد أشد الناس تعلقاً بموطنهم، وأكثرهم توقاً لربوعه، وما فيها من جبال، ومياه، ونبات، .... وأحبة. ويكفي أن يومض برق من جهة نجد أو تهب نسمة، أو يفوح شذا زهر، كي تهيج عواطف النجدي، ويستبد به حنين جارف يبجس مكامن الدمع، وينطقه الشعر وإن لم يكن شاعراً حتى ليمكن وصف ذلك بـ"الظاهرة النجدية"، ولهذا حين نتأمل خريطة الشعر العربي القديم يتضح لنا أن شاعرية العرب كانت تستوطن ربوع نجد، وقلما تفارقها.
وتتجلى هذه الظاهرة بكثرة الأشعار التي تلهج باسم نجد وتذكر هواءه، ونفحات شذاه، وأسماء أماكنه، وتعبر عن توق دائم للعيش فيه، وسوف نتوقف عند بعض الأمور الأبرز في هذا الحنين الذي نرى فيه انعكاساً عميقاً لتلك الجاذبية.
التُّوْقُ الدائم إلى ربوع نجد:
عبر النجديون عن توقهم الدائم إلى موطنهم في قصائد كثيرة، يذكرون في بعضها اسم نجد، وفي بعضها أسماء أمكنة وجبال في نجد، وفي الحالين كانت اللهفة تفيض من النص، مشفوعة بروح تكاد تسيل بين الكلمات من شدة الشوق، لرؤية هذا الموطن العزيز. وفي أبيات جعفر بن علبه الحارثي مثل معبر حقاً:
أحقَّاً عبادَ الله أن لستَ رائياً
صحاريَّ نجدٍ والرياحَ الذواريا
ولا زائراً شُمَّ العرانين، أنتمي
إلى عامر، يحللن رملا معاليا
إذا ما أتيتَ الحارثياتِ فَانْعَني
لهن، وخبرهن أن لا تلاقيا (1).
وهذا آخر يسابق قلبه إلى منازل أحبته، فينتابه شعور بأن قلبه سينقطع قبل بلوغ المكان لشدة شوقه، واضطراب فؤاده:
أقول لصاحبيَّ بأرضِ نجدٍ
وجَدَّ مسيرُنا ودنا الطروقُ
أرى قلبي سينقطع اشتياقا
وأحزانا، وما انقطع الطريق (2).
وإذا ما اغترب أحد هؤلاء الناس لسبب ما، فكل شيء يسمعه أو يراه، ويذكره بموطنه، يهيج مشاعره، ويؤجِّج توقه، كما تُؤجَّجُ النارُ الكامنةُ تحت الرماد. وما كان له أن يصبر على البعد إذا ما هدلت حمامة، أو هبت رياح، أو ومض برق من جهة نجد، فيتذكر الأماكن التي ألفها، والناس الذين عاشرهم.
وما أبلغ أبيات ذلك البدوي الذي قدم إلى بغداد فسمع غناء الحمائم في بستان إبراهيم بن المهدي وربما لمح برقاً، فحن إلى بلده، فراح يخمن الأماكن التي ينزل فيها المطر، وقد تنسم مع الريح نفحات نجد، وفوح عراره، فلم يستطع حبس عبراته:
أشاقتك البوارقُ والجَنوبُ
ومن عَلوى الرياحُ لها هبوبُ
أتتكَ بنفحةٍ من ريح نجد
تَضَوَّعُ والعرارُ بها مَشوبُ
وشِمتُ البارقاتِ فقلت: جيدت
حبالُ البِشْرِ أو مُطِرَ القَليبُ
ومن بستان إبراهيم غَنَّتْ
حمائمُ بينها فَننٌ رطيبُ
فقلتُ لها: وُقيتِ سهامَ رام
ورُقطَ الريشَ مَطعَمُها الجُنوبُ
كما هيَّجتِ ذا حَزَنٍ غريباً
على أشجانه فبكى الغريبُ (3).
ويلاحظ مدى شفافية هذا البدوي في إشفاقه على هذه الحمائم من أن تصيبها سهام الصيادين، ولعل خوفه نابع أصلاً من إشفاقه على حمائم نجد، ومن ثم على الحمام كله في أي مكان.
ولابن الدمينة (أو ابن الطثرية في رواية ثانية). موقف يقارب هذا حين هاجه هبوب الصبا، وهديل الحمام، فسابقت دموعه أشواقه إلى نجد، ومن يحب فيه:
ألا يا صَبا نجد متى هِجتَ من نجد
فقد زادَنِي مسراكَ وجداً على وجدِ
أَإِنْ هتفت ورقاءُ في رونقِ الضحى
على فنن غَضِّ النباتِ من الرَّندِ
بكيتَ كما يبكي الحزينُ صبابة
وذبتَ من الشوق المبرح والصَّدِّ
بكيتَ كما يبكي الوليدُ، ولم تكن
جَزوعاً، وأبديتَ الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المُحبَّ إذا دنا
يملُّ، وأنَّ النأيَ يشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوينا فلم يشفَ ما بنا
على أن قُربَ الدارِ خيرٌ من البُعدِ (4).
¥