[فعل كاد بين النفي والإثبات]
ـ[عصام البشير]ــــــــ[21 - 12 - 04, 05:23 م]ـ
فعل كاد بين النفي والإثبات مع الكلام على قوله تعالى: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)
اختلف النحاة في معنى ''كاد'' حال النفي والإثبات، على أقوال أربعة:
أولها: أن نفي ''كاد'' يدل على نفي مقاربة الفعل، وهو يقتضي نفي وقوع الفعل بطريق فحوى الخطاب (أي بالأولى)، أما إثباتها فيدل على إثبات مقاربة الفعل، ويدل على انتفاء وقوعه، لأنك إذا قلت: كاد يقوم، فمعناه قارب القيام، ولا يقال ذلك عرفا إلا إذا قارب ولم يفعل. (1)
وهذا مذهب الزجاجي، ونظمه ابن مالك في الكافية بقوله:
وبثبوت كاد يُنفى الخبرُ
وحين يُنفى كاد ذاك أجدرُ.
ويشكل على هذا القول: قوله تعالى: (فذبحوها وما كادوا يفعلون)، فإن قوله: (فذبحوها) إثبات للذبح، وقوله: (وما كادوا يفعلون) نفي للفعل – الذي هو الذبح، وعدم تكراره تفنن في البيان (أفاده ابن عاشور) -، فيلزم التناقض بنفي الشيء وإثباته في آن.
وانفصل أصحاب هذا القول عن هذا الإشكال بقولهم: إن ذلك باعتبار وقتين، والمعنى: فذبحوها الآن، وما كادوا يفعلون قبل ذلك. ونظمه ابن مالك في الكافية بقوله:
وغيرَ ذا على كَلامَين يرِدْ
كوَلَدَت هند ولم تكدْ تلِد.
ويرد على هذا الجواب إشكال ثان، وهو: أن جملة (وما كادوا يفعلون) في موضع الحال، والمعنى: (فذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل)، وهذا يفيد أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة في الفعل. وعلى هذا يكون وقت الذبح متحدا بوقت مقاربة انتفائه، إشارة إلى أن المماطلة قارنت أول أزمنة الذبح.
والجواب عن الإيراد الثاني: أن تجعل الجملة استئنافية لا حالية. وعليه يصح اختلاف الوقتين، أي فذبحوها وكانوا قبل ذلك في حال من لم يقارب الفعل.
لكن هذا الحمل خلاف الأصل، وهو يفضي إلى تفكيك الجملة، وعدم ترابط أجزائها.
والثاني: يوافق الأول في حالة الإثبات، أما في النفي فبالعكس، فيكون إثبات ''كاد'' نفيا للخبر، ونفيها إثباتا له. (2) وهذا مخالف لقياس الوضع اللغوي، لذلك اشتهر بين أهل الإعراب، وألغز به أبو العلاء المعري بقوله:
أنحويَّ هذا العصر ما هي لفظة
أتت في لسانيْ جرهم وثمود
إذا استعملتْ في صورة الجحد أثبتتْ
وإن أُثبتتْ قامتْ مقام جحود
وأجاب الشهاب الحجازي بقوله:
لقد كاد هذا اللغز يصدي فكرتي
وما كدت منه أشتفي بورود
فهذا جواب يرتضيه أولوا النهى
وممتنع عن فهم كل بليد. (3)
وهاهنا قصة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز وذلك أن عنبسة العنسي الشاعر قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة ينشد قصيدته الحائية التي أولها:
أمَنْزلتيْ ميٍ سلام عليكما
على النأي والنائي يود وينصحُ
حتى بلغ قوله:
إذا غير النأيُ المحبين لم يكدْ
رسيسُ الهوى من حُب ميةَ يبرحُ (4)
وكان في الحاضرين ابنُ شبرمة فناداه: يا غيلان – اسم ذي الرمة -: أراه قد برح.
قال: فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر، ثم قال: ''لم أجد'' عوض ''لم يكد''.
قال عنبسة: فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى: (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها)، وإنما هو لم يرها ولم يكد. اهـ
وهذا التوجيه لقول ذي الرمة مبني على القول الأول، ومعناه: إذا تغير حب كل محب لم يقارب حبي التغير، وإذا لم يقاربه فهو بعيد منه، فهذا أبلغ من أن يقول: لم يبرح لأنه قد يكون غير بارح، وهو قريب من البراح، بخلاف المخبر عنه بنفي مقاربة البراح. وكذا قوله تعالى: (إذا أخرج يده لم يكد يراها) هو أبلغ في نفي الرؤية من أن يقال: لم يرها، لأن من لم ير قد يقارب الرؤية بخلاف من لم يقارب.
واستدل أصحاب القول الثاني برجوع ذي الرمة عن بيته، وهو من أهل اللسان، كما هو معلوم.
والثالث: أن الأصل في ''كاد'' أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما هو قول الأولين، إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد، وبعد أن كان وقوعه بعيدا في الظن. وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف، والمقصود تشبيه حالة من فعل الأمر بعد عناء وجهد بحالة من بعد عن الفعل.
¥