وجه الاستدلال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام منع المرأة من السفر خلال هذه المدة إلا إذا كان معها زوجها أو محرم، وتعليقه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بمدة الثلاثة أيام يفهم منه: أن سفر الثلاثة أيام هو الذي ينصرف إليه اسم السفر عند الإطلاق، فينبغي أن يقيد به.
ونرد على استدلال الثوري بهذا الحديث عدد من المناقشات التي وردت على بعض أصحاب الآراء السابقة، ونجملها فيما يلي:
أ- إن الحديث وارد في تحديد المسافة التي لا يجوز للمرأة أن تسافر فيها بدون محرم بينما المستدل عليه هو حدّ السفر المبيح للفطر وشتان بين الأمرين.
ب- إن هذا الحديث قد ورد بعدة روايات، فالتمسك بإحداها دون بقيتها فيه تحكم.
ج- عدم وجود تقدير مساحي لتحديد هذه المسافة بالأميال أو الفراسخ جعل التحديد الزمن بمسيرة ثلاثة أيام قليل الفائدة.
ويمكن الرد على هذه المناقشات بما يلي:
أ- أما المناقشة الأولى: فقد سبقت الإجابة عليها أكثر من مرة.
ب- أما المناقشة الثانية: فيجاب عنها، بأن التمسك برواية الثلاث أولى من التمسك بغيرها، لأن الثلاث أكثر ما ورد، والتمسك بأكثر ما ورد، فيه أخذ بالحيطة، وهى مطلوبة في الدين.
ج- أما المناقشة الثالثة: فيجاب عنها، بأن العلة في الرخصة هي المشقة، والمشقة إنما تتحقق في سفر الثلاثة أيام.
ويمكن على هذه الإجابة السؤال التالي:
ما الحكم إذا قطعت هذه المسافة- مسيرة الثلاثة أيام- في ساعة أو بعض الساعة كما هو حاصل الآن بالسيارات السريعة فضلا عن الطائرات، فماذا تكون الإجابة؟.
هذه هي أهم الآراء في تقدير المسافة التي تتحقق بها رخصة الفطر للمسافر، وقد أضربنا عن ذكر بقية الآراء، لعدم وجود مستند صحيح لها.
الرأي المختار:
واضح من استعراضنا لآراء الفقهاء ومستنداتهم في هذه المسألة أن الرأي الثاني أقوى الآراء إذ يستدل بحديث أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ- شك شعبة- صلى ركعتين"؛ إذ هو نص صريح صحيح في الموضوع. وإنما التحديد بالثلاثة فراسخ أولى، لأنه القدر المتيقن.
لكن وجود الاحتمال الذي أشرنا إليه سابقاً من أن ذلك كان ابتداء القصر، وأن هذا الاحتمال ليس ببعيد -بعد أن ذكرت بعضا من الأحاديث الصحيحة التي تفيد أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يبتدئ القصر من ذي الحليفة، وبينها وبين المدينة، من فرسخين إلى ثلاثة، كما يحمل فعل عمر رضي اللّه عنه على ذلك- يضعف هذا الاستدلال. لذا أرى أن الأخذ برأي الفريق الذي حدد المسافة بأربعة برد هو الأولى لما يأتي:
1 - امتياز هذا التحديد بالوضوح، فقد حددت فيه المسافة بمقياس مساحي وهو أربعة برد. وأن هذا القياس ارتكز على علامات مادية يمكن الرجوع إليها للتأكد من مقداره وضبطه؛ وهو من مكة إلى عسفان، ومن مكة إلى الطائف ومن مكة إلى جدة، ومن المدينة إلى ذات النصب ومن المدينة إلى ريم.
2 - اتفاق ابن عمر المعروف بتشدده، وابن عباس بتيسيره على هذا القدر يومي- ولو من بعيد- إلى أنه ربما يكونا قد استلهماه من مشكاة النبوة، ومعلوم أنهما كانا من الملازمين له صلى اللّه عليه وسلم في أسفاره [51].
وأما ما ورد من قول ابن عمر رضي اللّه عنهما، أنه يقصر في سفر ساعة ونحو ذلك مما يتعارض مع التحديد السابق، فقد قال بعض أهل العلم: إن التحديد بأربعة برد وما في معناه هو أصح الروايتين عن ابن عمر [52].
3 - كان هذا الرأي هو محل اختيار أغلبية رجال الحديث الذين أنفقوا حياتهم في الاشتغال بالسنة رواية ودراية، فإطباق هذه الكثرة على الأخذ بهذا التحديد يشير بوضوح إلا عدم وجود نص صريح ثابت من السنة في الموضوع.
4 - عدم تجويز كل من ابن عمر وابن عباس للقصر في مسافات أقل من هذا المقدار. يدل على مدى تمكنهما من تحديد هذا المقدار، فقد سبقت الإشارة إلى ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل أتقصر الصلاة إلى عرفة، فقال: لا. ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف وما روي عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى الغابة- وهى على بريد من المدينة- فلا يفطر ولا يقصر [53].
كما نقل عن أبي جمرة قوله: قلت لابن عباس: أقصر إلا الأبله [54]. قال أتجيء من يومك؟ قلت: نعم. قال: لا تقصر [55].
¥