ومن المعلوم أيضاً، أن المسلم منهي أن يغشى مواطن الهلكة وموارد قتل النفس فلما كان في سبيل الله، ومن أجل مصلحة الدين وإعلاء كلمة الله،كان ذلك مشروعاً بل مندوباً ندباً مؤكداً ففي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل، أو الموت مظانه) وهنا يتبين أن ليس شيء مبتغى سوى القتل والموت ومظانههما. بل روى البيهقي في السنن الكبرى أيضاً قال: قال الشافعي رضي الله عنه تخلف رجل من الأنصار عن أصحاب بئر معونة، فرأى الطير عكوفاً على مقتلة أصحابه، فقال لعمرو بن أمية سأقدم على هؤلاء العدو فيقتلوني، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابنا ففعل، فقتل فرجع عمرو بن أمية فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً ويقال: قال لعمرو: (فهلا تقدمت؟). ولنا أن نتأمل قوله (فيقتلونني) أي ليس له ثَمّ هدف سوى أن يقتل في سبيل الله.
ومن المعلوم أيضاً ما قاله العلماء فيمن مكن نفسه من عدوه فقتله، ولم يتخلص منه مع إمكانه التخلص. أن هذا الصنف قاتل لنفسه وإليك نص قول الربيع في الأم للشافعي: قال: وأصح القولين أن لا عقل في النفس ولا قود ; لأنه هو الذي قتل نفسه إذا كان يقدر أن يتخلص فيسلم من الموت فترك التخلص وعلى الطارح أرش ما أحرقت النار منه أول ما طرح قبل أن يمكنه التخلص.
وفي موضع آخر من كتاب الأم للشافعي أن من لم يدافع العدو وهو قادر على ذلك أو الفرار هو كقاتل نفسه وأوجب عليه الدفع عن نفسه أو الهرب.
وهنا يقال على قول الفقهاء هذا، إن الصحابي الجليل الذي قال سأقدم على هؤلاء فيقتلوني أنه قاتل لنفسه، ولكن في سبيل الله، وأقره الرسول e على ذلك ولا يسمى منتحراً بسبب الدنيا وعوارضها.
وأما أدلة جواز إلقاء النفس بالتهلكة لمصلحة الدين فهي الأدلة التي تجيز الانغماس في العدو حاسراً مع تيقن الموت فقد سقتها في أول البحث حيث تخرج من ابتغى وجه الله وأراد الآخرة وقصد إعلاء كلمة الله من عموم نصوص النهي عن قتل النفس ففرق بين المنتحر للدنيا ومن غمس يده في العدو لإعلاء كلمة الدين مع تيقن الموت.
وهنا نجد أن النية والقصد غيرت الحكم تغييراً جذرياً مضاداً، فمن الحرمة والتهديد بالنار إلى الاستحباب والوعد بجنان النعيم، في فعلين ظاهرهما الاتحاد والتماثل ومحصلتهما واحدة. ولكن [إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى] فالمريض الذي يترك التداوي من غير قصد سوى الإهمال والتواكل، فيموت ليس كالمريض الذي تركه توكلاً على الله تعالى واحتساباً بأن يكون من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون و لا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فالأول آثم بنص القرآن والسنة والثاني مأجور بنص القرآن والسنة.
لذا هل يمكن أن يقال عمن قتل نفسه لإعلاء كلمة الله وحفاظاً على أرواح المئات من المؤمنين والمؤمنات وأعراضهم ونكاية في أعداء الله، وإرهاباً لهم بنية خالصة أنه منتحر؟!!!! قبل معرفة الدليل. {سبحانك هذا بهتان عظيم}.
بيان أدلة جواز الانتحار خوف إفشاء الأسرار
لم أجد عند العلماء المتقدمين كما أسلفت ما يشير إلى ذلك صراحة، وأما المتأخرون فهم على قولين اثنين لا ثالث لهما، الأول الحرمة وأدلتهم عموم النصوص التي تحرم قتل النفس وإزهاقها، والقول الثاني الجواز للأدلة التي سوف أتناولها الآن بل يمكن أن يقال بالوجوب أو الأفضلية، لما يلي:
أولاً: ليعلم أن حماية الدين وأهله أعظم ما يقوم به المجاهد لإعلاء كلمة الله، ولقد جاءنا مالا يدع مجالاً للشك، بجواز بل فضل فداء المجاهد لدينه وإخوانه بنفسه كما مر معنا، إلا أنني أضيف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد احتمى بالصحابة يوم أحد ولم ينكر ذلك، ولم يدل دليل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الفعل، ففي قصة حماية أبي دجانة للرسول eبنفسه ليكون ترساً له من النبل كما في البداية والنهاية لابن كثير، وقول أبي طلحة للرسول صلى الله عليه وسلم: نحري دون نحرك كما في الصحيحين وغيرهما، وكان يقي رسول الله e بنحره ويتطاول في ذلك، بل دافع عنه حتى شلت
¥