وقالت طائفة: بل الحديث على ظاهره في ترك الفرائض والسنن عمداً وغير عمد.
واليه ذهب الحارث المحاسبي وغيره.
وهو قول طائفة من أصحابنا وابن عبد البر، إلا أنهم خصوه بغير العامد.
وحمله آخرون على العامد وغيره، وهو الأظهر – إن شاء الله تعالى.
وقولهم: (نية الفرض لا ينوب عنها نية النفل) إنما هو بالنسبة إلى أحكام تكليف العباد في الدنيا، فأمابالنسبة إلى فضل الله في الآخرة فلا؛ لأن فضله واسع لا حجر عليه، بل هو تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
مع أن في تأدية الفرائض بنية التطوع اختلافاً مشهوراً بين العلماء في الحج والصيام والزكاة، وكذا في الصلاة.
وأيضا؛ فقد حكينا فيما سبق في (كتاب الإيمان) عن سفيان، أن من نسي صلاة فدخل مع قوم يصلونها، وهو ينوي أنها تطوع، أنها تقع عن الفرض الذي عليه.
وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي الفريأبي: صل ركعتي الفجر في البيت، فإن مت قبل الفريضة أجزأتك من الفريضة.
وروي عن بعض الصحابة، أنه دخل المسجد ولم يكن صلى الظهر، وإن الإمام يصلي العصر، فصلى معه وهو يظن أنها الظهر، فاعتد بها عن العصر، ثم صلى الظهر.
خرجه الجوزجاني.
واستدل الأولون بالأحاديث التي فيها: أن من ضيع بعض حدود الصلاة، أنه لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
ولا حجة في ذلك؛ لأن الله إذا شاء أن يغفر لعبد أكمل فرائضه من نوافله، وذلك فضل من عنده يفعله مع من يشاء أن يرحمه ولا يعذبه.
واستدلوا – أيضا- بما روى موسى بن عبيدة، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المصلي مثل التاجر، لا يخلص له ربحه حتى يأخذ رأس ماله، فكذلك المصلي لا يقبل له صلاة نافلة حتى يؤدي الفريضة).
خرجه البزار والهيثم بن كليب في (مسنديهما) والإسماعيلي.
وموسى بن عبيدة، ضعيف جداً من قبل حفظه، وقد تفرد بهذا.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني من طريق أبي أمية، عن الحسن، عن أبي هريرة – مرفوعاً-: (من صلى المتكوبة فلم يتم ركوعها ولا سجودها، ثم يكثر من التطوع، فمثله كمثل من لا شف له حتى يؤدي رأس ماله).
وأبو أمية، هو: عبد الكريم، متروك الحديث.
و (الشف): من أسماء الأضداد، يكون بمعنى الزيادة، وبمعنى النقص.
وخرجه إسحاق بن راهويه في (مسنده)، عن كلثوم بن محمد بن أبي سدرة، عن عطاء الخراساني، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا صلى الرجل الصلاة المكتوبة، فلم يتم ركوعها ولا سجودها وتكبيرها والتضرع فيها، كان كمثل التاجر لا شف له، حتى يفي رأس ماله).
وكلثوم، ضعفه ابن عدي وغيره. وعطاء، لم يسمع من أبي هريرة.
ومعنى هذه الأحاديث – إن صح منها شيء-: أن النوافل يكمل بها نقص الفرائض، فلا يسلم له شيء من النوافل حتى يكمل نقص الفرائض؛ ولهذا شبهه بالتاجر الذي [لا] يخلص له ربح حتى يستوفي رأس ماله، ويظهر هذا في المضارب بمال غيره، ولهذا يقول الفقهاء: إن ربحه وقاية لرأس المال.
ومن هنا؛ قال طائفة من السلف –منهم: ابن عباس وأبو أمامة-: إنما النافلة للنبيصلى الله عليه وسلم خاصة.
يعنون: أن غيره تكمل فرائضه بنوافله، فلا يخلص له نافلة، فنوافله جبرانات لفرائضه.
وروى إسحاق بن راهويه في (مسنده): ثنا عبد الل بن واقد: ثنا حيوة بن شريح، عن أبي الأسود، عن ابن رافع، عن أبي هريرة، عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: (من كان عليه من رمضان شيء، فأدركه رمضان ولم يقضه لم يتقبل منه، ومن صلى تطوعاً وعليه مكتوبة، لم يتقبل منه).
عبد الله بن واقد، هو: أبو قتادة الحراني، تكلموا فيه.
وهذا غريب من حديث حيوة، وإنما هو مشهور من حديث أبن لهيعة.
وقد خرجه الإمام أحمد عن حسن الأشيب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من صام تطوعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه، فإنه لا يتقبل منه).
ولم يذكر في حديثه: (الصلاة).
وقد روي مرفوعاً.
وقال أبو زرعة: الصحيح المرفوع.
ونفي القبول لا يستلزم [نفي] الصحة بالكلية، وقد سبق ذكر ذلك غير مرة.
ويدل على ذلك: أن في تمام الحديث الذي خرجه الإمام أحمد: (من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يقضه لم يتقبل منه)، ومعلوم أنه يلزمه قضاؤه بعد رمضان مع الإطعام.
ولا يعلم في لزوم القضاء خلاف، إلا عن ابن عمر من وجه فيه ضعف، والخلاف مشهور في وجوب الإطعام مع القضاء.
وقد نقل إبراهيم الحربي، عن أحمد، انه سئل عن حديث النبي ?: (لا صلاة لمن عليه صلاة)؟ قال: لا أعرف هذا اللفظ.
قال الحربي: ولا سمعت بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا يدل على أن الحديث الذي خرجه إسحاق لا أصل له.
وقد اختلف العلماء فيمن عليه قضاء رمضان: هل يجوز له أن يتنفل بالصيام قبل القضاء، أم لا؟ فيه قولان معروفان، هما روايتان عن أحمد.
وأكثر العلماء على جوازه، وروي عن طائفة من السلف المنع منه.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه: مثل الذي يتطوع بالصوم وعليه قضاء رمضان، كمثل الذي يسبح وهو يخاف أن تفوته المكتوبة.
وكذلك لو كان عليه صلاة فائتة، فتطوع قبل قضائها، فإن كان التطوع بسنتها الراتبة، فهو جائز، بل يستحب عند جمهور العلماء، خلافاً لمالك، وقد سبق ذلك، وإن كان تطوعاً مطلقاً، فقال أصحابنا: لا يجوز؛ لأن القضاء عندهم على الفور، بخلاف قضاء رمضان؛ فإنه على التراخي حتى يتضايق وقته في شعبان.
وفي انعقاده – لو فعل- وجهان، وحكي روايتان.
ورجح بعضهم عدم الانعقاد، وحمل حديث تكميل الفرائض بالنوافل على السنن الرواتب، أو على من تطوع ونسي أن عليه فائتة.
والذين لا يرون على العامد القضاء بالكلية، لا يتصور هذه المسألة عندهم، لأنهم يقولون: ليس يلزمه قضاء بالكلية.
* * *
¥