تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال السعدي: " فهؤلاء يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب، ضعيف الهمة، تنتقص عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين، وفي قلوبهم تعبُّدٌ لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق، وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله حتى لا يخاف في الله لومة لائم ". قال الطاهر بن عاشور: " وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأن الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة، ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثقة بالنفس وأصالة الرأي ". وقال سيد قطب: " وفيم الخوف من لوم الناس، وهم قد ضمنوا حب رب الناس، إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس، ومن يستمد عونه ومدده من الناس، أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم، وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون، كائناً هؤلاء الناس ما كانوا، وكائناً واقع هؤلاء الناس ما كان، وكائنة حضارة هؤلاء وعلومهم وثقافتهم ما تكون! وقال البقاعي: " وسبب عدم خوفهم من الملامة صلابة دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين – أمر بالمعروف أو نهي عن منكر - كانوا كالمسامير المحماة، لا يرِّوعهم قول قائل ولا اعتراض معترض، ويفعلون في الجهاد جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم، فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم ". وقال الْجَمَلُ: " بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين، وفيه تعريض بالمنافقين ". وانظر لهذا القول النفيس من الشوكاني: " فهم متصلبون في دينهم لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوئ، ومناقبهم مثالب، حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله ". أهـ

* * *

وإن الناظر في واقعنا لَيَرَى أن الهوانَ قد حَطَ رحلَه على الأمة الإسلامية، وقد هوى بكل قوته، وقد جثا على صدرها وما ذلك إلا بسبب ضعف إيمانهم، وفتور دينهم، وتركهم للدين أو لأجزاء منه، فوَقَعَ عليهم الذلُ والهوانُ، وجعل اللهُ بأسَهم بينهم، وانقلبتِ الأوصافُ السابقة عليهم، فنجدهم أعزاء على المؤمنين، أذلاء على الكافرين، ويراقبون الناس أكثر من مراقبتهم لله مخافة الملامة من البشر {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله}، فهم في مرحلة الاستضعاف والذل، وهذا بسبب سوء أعمالهم وركونهم للدنيا، قال شيخ الإسلام: " فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله، فقد يبتليهم الله بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع الفتنة، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم باس بعض ". أهـ

* * *

وختاماً: أقول إن الله جل ثناؤه بَيّنَ حقيقةً دعمها بِخَبَرٍ من الغيب يُظْهِرُه الزَمَنُ المستقبل، فالحقيقة أن المنافقين والمتخاذلين لا يُعَوَّلُ عليهم، ولا يُعْتَدُ بهم في نُصْرَةِ الإسلام وأهله، إنما التَعْوِيلُ في نصرة الدين على المؤمنين الصادقين الذين ظَهَرَتِ عليهم المحبةُ لخالقهم والمُنْعِمِ عليهم، فظهرت على جوارحهم وقاموا بالواجب المطلوب منهم أتم قيام، وبذلوا مُهَجَ أنفسهم في سبيل رضا ربهم ونشر دينه ودحض الباطل إن الباطل كان زهوقاً.

* * *

فيا مَنْ وجد هذه الصفات وأماراتها في نفسه فَلِيَهْنَك هذا الفضل من الله، ولتحمد الله، فإنها مِنَّةٌ خالصة من الكريم، وفَضْلٌ من الله العظيم تفضل بها عليك، فَلْتَسْعَ في شكرِها، والمحافظةِ عليها، ولا يراك اللهُ إلا شاكراً، ولا تحزن أو تغتم لِتَأَخُرِ النَصْرِ والتمكينِ فإنه لا يتأخرُ إلا لِحِكَمٍ لا يعلمها إلا الله العليم الحكيم. ويا مَنْ فقدها فلتجتهد في تحصيلها فإنها سمة ناصري الدين إن أردت أن تكون منهم، ولتحذر أن تكون ممن يستبدلهم المولى بغيرهم فتكون من الخاسرين.

وإن هذا الفضل مِنَ الله يهبه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء ولا راد لحكمه. فمَنْ حُرم هذا الفضل فلا ينزغنه الشيطان لذم مَنْ تحلى بهذه الصفات. فإن الله حكيم يهبها لمن يرى أنه أهل لذلك سواء أكان من أهل العلم الشامخين، أو من ذوي الفضل المشهورين، أو من بقية الأمة العاملين.

فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة هو وشأنه، والله غني عن العالمين، والله يختار من عباده مَنْ يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم والعطاء الواسع.

نسأل الله أن يرجع الأمة إلى دينه، وأن يعزنا بطاعته، وأن يستخدمنا في نصرة دينه. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وكتبه

أبو عَديّ حاتم بن عابد القرشي

9/ 10 / 1424 هـ

الطائف ص. ب 4635

البريد الإلكتروني [email protected]

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير