اعلم أن منهج أهل الحديث في تراجمهم للعلماء وكتبهم التاريخية أنهم يذكرون محاسن الرجل ويتبعونها بما يؤاخذ عليه، إنصافا للحق، ونصحا للخلق، ومن أعظم من مثل ذلك في كتبه الحافظ مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الذهبي رحمه الله تعالى، وقد تأثرت به كثيرا، وقرأت أهم كتبه في الباب. وليس هذا من الغيبة والقدح في العلماء في شيء، فهذا هو "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "أمرنا أن ننزل الناس منازلهم".
وإذا كان العالم ذا شهرة بين الناس وله من التصانيف الكثير، كان الاهتمام به أكثر وأكثر.
إذا تبين هذا وتمهّد؛ فإن الحافظ أحمد بن الصديق كان أحد كبار علماء القرن الماضي، ولم يكن مغمورا بين قومه، بل قد خرج بمنهاج جديد خاص به، ونبذ القديم الذي استقر عليه الناس، فكان الناس فيه على مذاهب؛
منهم: من تعصب له ورأى أن الحق كله معه، وأنه كان على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلف.
ومنهم: من جعله من أضل خلق الله، ولم ير له ممدحة.
ومنهم: من توسط بين ذلك قِواما.
وحيث إني تجشمت دراسة حياة وفقه الرجل في رسالة علمية ستعرض على أنظار الجامعة ثم الناس جميعا، فقد بذلت كل جهدي لمعرفة الحقيقة وإنصاف هذا الرجل، دون أن أعطيه ما ليس له، أو أغمطه حقه الذي له، بميزان عادل خال من الهوى، شهد الله تعالى.
فأما في مقدمة "توجيه الأنظار"؛ فقد عمدت إلى كلام كبار علماء زمان الشيخ الذين تكلموا ذاكرين محاسنه وأخطاءه، فنقلته بالحرف. ومدحت الرجل وبينت غيرته على الدين، وجهاده لنصرة الإسلام، وأن دعوة أهل السنة والحديث ما انتشرت في الشمال المغربي إلا بجهوده وجهود إخوته، وبينت أن أصحابهم تداركوا ما وقعوا فيه من أخطاء حتى يوافقوا محض السنة.
أما في دراستي؛ فقد فضلت أن ألخص مواقف الشيخ الفكرية دون تعليق، وإعطاء حكم احتراما له، وحتى لا أجرح محبيه. ولكن ..
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فإن المتعصبين للشيخ كرهوا كلامي، كما أن المتعصبين عليه كرهوه واتهموني بالمداهنة والتقصير.
وما علي من الطائفتين، فإنني أخاطب أهل الاعتدال والإنصاف.
وما علي إذا ما قلت معتقدي دع الجهول يظن الحق عدوانا
ففي دراستي مدحت الشيخ مدحا بينا، وذكرت محاسنه، ثم كنت دقيقا في وصف أخطائه. أما وصف منهجه العلمي العام فقد بينته بالنقول من كلام الشيخ في مؤلفاته بالحرف، وتركت بعض العبارات الخشنة تأدبا معه.
مع أن السيد أحمد عند نقده لمخالفيه ينقضُّ عليهم كالصقر، لا يبقي لهم حسنة ولا يعرف لهم فضلا.
وفي السيد أحمد شبه كبير بالحافظ أبي محمد ابن حزم الظاهري، ولعله تأثر به في شدته وعنفه على المخالف. فهل تنكر على من أنشأ دراسة عن هذا الإمام فقال: إنه وافق الجهمية في أمور، وأخطأ في كيت وكيت، كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "لي ميل إلى أبي محمد رحمه الله، وإن كنت لا أوافقه في مسائله المستبشعة في الأصول والفروع، ولا أكفره، ولا أضلله، وأخضع لفرط ذكائه". هذا معنى كلامه الذي ذكره في "سير أعلام النبلاء"، وقد نقلته بالنص في رسالتي "وصف المحلى" وتكلمت عن ابن حزم بمثل ما تكلمت عن ابن الصديق. والرسالة مطبوعة بحمد الله تعالى.
وقد خرجت دراسات كثيرة عن جماعة من أئمة الإسلام، وفيها دراسة عن عقائدهم ومناهجهم الفكرية، فكان في ذلك نفع عظيم لطلبة العلم والعلماء.
وما لنا نذهب بعيدا؛ فإن السيد أحمد نفسه في تراجمه من "البحر العميق" وغيره لا يذكر عالما إلا ويبين ما له وما عليه، اقتداء بأهل الحديث، لكن ميزانه كان منهاجه الذي وضعه لنفسه، لا منهاج أيمة أهل السنة والحديث كما هو مقرر في كتبهم، ك"السنة" لابن أبي عاصم، ولعبد الله بن أحمد بن حنبل، و"التوحيد" لابن خزيمة، و"الشريعة" لأبي بكر الآجري، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي، و"الحجة على تارك المحجة" لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني ... وغيرها كثير.
وبكل حال؛ فالكلام في الرجال يجب أن يكون بورع واعتدال، لا بشطط وهوى.
¥