وعلى كل حال؛ فنحن إنصافا للحق، وتقييدا للتاريخ الذي ابتلي المغاربة بإهمال كثير منه، أوضح الصورة. وقبل ذلك أحب أن أعرف بالشيخ البقالي حفظه الله تعالى، فإنه غير معروف عند جيلنا الجديد، وقد كان ينبغي للمؤلف أن ينوه به ويعرف القاريء حاله، خاصة والشيخ احمد قد جعله ثاني اثنين بقيا من دعاة السنة بالمغرب.
ترجمة الشيخ محمد البقالي:
فقد أخبرني تلميذه الذي درس عليه جملة من الكتب، صديقنا ورفيقنا في المحنة؛ أبو الفضل عمر بن مسعود الحدّوشي، فك الله أسرنا وأسره، أن محمدا البقالي أخذ العلم عن كبار علماء القرويين، حتى تضلع من علمهم، ثم قدم طنجة فخورا بعلمه، يلبس زي العلماء، وعليه البرنس (السلهام)، فقيل له: إن هاهنا عالما لم تر مثله، فحضر درسا للحافظ ابن الصديق، فإذا هو يملي الأحاديث من صدره ويتكلم عليها بعجائب العلم، فذهل البقالي لذلك وألقى برنسه وقال: "الآن بدأت أطلب العلم! ".
ثم إنه تاثر بابن الصديق تأثرا كبيرا، فكان ابن الصديق إذا كتب في مسألة وأراد نقول المالكية يسردها البقالي عليه من صدره دون تلعثم، فيقول له: "كم تحفظ من هذه التخاليط!! ".
وتصدر البقالي للتدريس، فدرس جملة من كتب السنة، وأخذ عنه عدد كبير من الطلبة، وكان شديد الكرم، يطعم تلاميذه أشهى المأكولات بعد الدرس، ويهديهم أنفس الكتب خاصة التي سيدرسونها.
لكنه ابتلي بجملة من التلاميذ الذين عقوه ولم يحفظوا له جميله، فضاق ذرعا بذلك، وقال: "من أراد عدوا من حينه، فليدرس طالبا بلحيته!! ".
ثم استنكف عن التدريس، واعتزل الحياة، واعتكف على العبادة في زاويته. وقد زرته بها منذ سنوات قبيل سجني، وهو شيخ كبير تجاوز التسعين. حفظه الله وبارك فيه.
فصل
اعلم بارك الله فيك، أن المجددين للسنة والعمل بها تطرقوا لثلاثة مجالات:
1 - العقيدة.
2 - الفقه.
3 - السلوك والتصوف.
وهم طوائف، ولكل طائفة منهم وجهة هي موليتها.
فطائفة دعت لتجديد الفقه مع المحافظة على المذهب وأصوله.
وأخرى دعت لنبذ المذهب كله، والعودة للآثار رأسا.
وأخرى دعت لنبذ العقيدة الأشعرية والعودة لعقيدة السلف الصالح. وهذه الطائفة من دعاتها من كان له معرفة مجملة بعقيدة السلف، ومنهم من كان متمكنا فيها قد قرأ كتبها وفهم مقاصد أهلها.
ومنهم من دعا لإصلاح التصوف مع الاستفادة من حسناته، ومنهم من دعا لتركه على حاله ودافع عنه، ومنهم من دعا لنبذه كله لأنه بدعة محدثة.
فلنبين أيمة أولئك وشيئا مما هنالك، فنقول:
كلامنا يبدأ من بداية القرن الماضي، وهو الرابع عشر، لأنه قرن التحول الحقيقي في المغرب، الذي نعيش اليوم ثماره الحلوة والمرة.
فقد دخلت سنة 1300هـ والجمهور الأعظم من المغاربة أشاعرة في العقيدة، على ما قرره متأخروا الأشاعرة في كتبهم الكلامية في جميع الأبواب، وكانوا يعتقدون أن ما هم عليه هو عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا يعرفون إلا ذلك.
وكانوا في الفقه مالكية، على ما قرره خليل في "مختصره"، وما شرحه به شراحه، حتى قال قائلهم: "نحن خليليون: إن ضل خليل ضللنا معه، وإن اهتدى اهتدينا معه!! ". ولا يقبلون إلا ذلك.
وفي التصوف: استقروا على الطرق الصوفية الكثيرة المعروفة بما صاحبها من شعائر اشتهروا بها، وانتشرت عند المتأخرين دونما نكير ولا تغيير، إلا ما كان من بعض الطرق التي انحرفت كثيرا وخرجت عن الشريعة خروجا بينا. وقد كان بين هذه الطرق من التنافس والتهاوش ما يكون اليوم بين الجماعات والأحزاب.
ولنبدأ أولا بذكر من دعا للسنة والعمل بها مع المحافظة على التصوف:
فمن أشهر هؤلاء: الشريف أبو المفاخر محمد بن عبد الواحد الكبير الكتاني (ت1289هـ)، المعروف عند مترجميه بإمام الأئمة. فإنه كان أواخر القرن الثالث عشر، ورحل للحرمين ولقي جماعة اهمهم: الإمام محمد بن علي السنوسي، إمام الزاوية السنوسية الشهيرة، وأحد دعاة السنة المعروفين، ثم رجع الإمام أبو المفاخر للمغرب، وأسس زاويته بفاس، وجعل من همه سرد وتدريس كتب السنة والعمل بما فيها.
ومن أشهر أصحابه: ولده الإمام أبو المكارم عبد الكبير (ت1333)، المعروف عند مترجميه بجبل السنة والدين، وابن عمه إمام المالكية في زمانه أبو المواهب جعفر بن إدريس الكتاني (ت1323).
¥