فأما أبو المواهب؛ فهو كذلك اهتم بالحديث والسنة، وألف مؤلفات جليلة مليئة بالسنن والآثار، ولكنه كان -في العموم- لا يخرج عن المذهب، وترك جملة من الأبناء اهتموا أيضا بالرواية والحديث، وعلى رأسهم الإمام الشهير أبو عبد الله محمد بن جعفر الكتاني صاحب "الرسالة المستطرفة" في كتب الحديث، و"نظم المتناثر من الحديث المتواتر" والذي قصد منه الرد على مدرسة محمد عبده وغيرها، وغيرهما. وكان إذا كان في المذهب قولان ينصر ما معه الدليل من السنة، كما فعل في سنة القبض في الصلاة، فقد نصرها وألف فيها كتابه "سلوك السبيل الواضح"، وكذلك ألف أخوه العلامة الشاعر أبو زبد عبد الرحمن "الحسام المنتضى المسنون على من قال إن القبض غير مسنون".
فهؤلاء كانوا ينصرون السنة في فضائل الأعمال وأمثال ذلك، دون الحلال والحرام، حتى كان الإمام محمد بن جعفر يقول: "أتوضأ على مذهب مالك، وأصلي على مذهب الشافعي، لأن وضوء هذا أكمل وصلاة ذاك اتم".
وهو الذي درّس مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مشرقا ومغربا مع ذكر مذاهب العلماء وأدلتها والترجيح بينها على طريقة الاجتهاد المطلق بما لم يكن للمغاربة به عهد.
وفي التصوف كان مواخيا لجميع الطرق، لم يكن منحازا لطائفة على أخرى، رحمه الله تعالى. توفي سنة 1345.
أما حفيداه: جدنا محمد المنتصر بالله (ت 1419)، وشقيقه محمد الناصر لدين الله (ت1394)، فقد كانا أكثر جرأة على مخالفة القديم، وتأثرا بكتابات ابن حزم الأندلسي وابن تيمية الدمشقي. ومع هذا فلم يعلنا خروجهما من المذهب. ومحمد الناصر كان أكثر تأثرا بابن تيمية في عقيدته وأبعد عن العقيدة الأشعرية، فقد مات رحمه الله تعالى سلفيا، على تشيع خفيف فيه، وكان له نقد واضح للمالكية في مخالفاتهم للآثار.
وجدنا محمد المنتصر بالله اشتهر بالدعوة لموسوعة الفقه الإسلامي، ولنظام إسلامي لا يتقيد في قوانينه بمذهب واحد، بل يستفيد من جميع المذاهب الإسلامية. وفي العقيدة ينصح بترك كلام المتكلمين والعودة إلى وضوح القرآن وصحيح السنة. قال لي مرة: "إن الأشاعرة إذا أولوا اليد بمعنى القوة. فقلنا لهم: هل هي كقوة الخلق؟، لأجابوك: قوة لا كقوة الخلق. فهلا قالوا: يد لا كيد الخلق؟! ".
أما الإمام عبد الكبير بن محمد بن عبد الواحد، فكان شديد التعظيم للسنن والآثار، والدعوة إليها، وترك المذهب لها، وكان يستحضر "فتح الباري" استحضارا، والكتب الستة كأصابع يديه، وكتابه "تحديد الأسنة في الذب عن السنة" دليل على ذلك.
وعلى ذلك كان ولداه الإمام الشهيد أبو الفيض محمد بن عبد الكبير، والحافظ أبو الإسعاد عبد الحي.
فهذا الإمام أبو الفيض دعا لجملة من السنن المخالفة للمذهب، وأمر بسرد كتب السنة في زواياه التي أسسها في طول البلاد وعرضها، وتقديمها على المذهب، بل دعا المذهبيين إلى ترجيح صحيح المذهب (وهو ما سانده الدليل) على مشهور المذهب (وهو ما كثر قائلوه)، كما دعا إلى ترك التأويل في الصفات والرجوع إلى مذهب السلف في العقيدة، وقال: "مذهب السلف أحكم وأعلم وأورع".
وهذا كله، أعني أولئك جميعا، مع شدة الغيرة على الدين، والاهتمام بقضايا المجاهدين ونصرتهم، وقول الحق والعمل به، حتى تجشموا في ذلك المشاق من سجن أو هجرة أو قتل تحت التعذيب!.
أما الحافظ أبو الإسعاد عبد الحي الكتاني؛ فبصرف النظر عن مواقفه السياسية التي لا أوافقه عليها ولعل له اجتهادا فيها، فقد كان له دور كبير في نشر كتب السنة، وصنف المؤلفات الجليلة في الذب عن شريعة الإسلام ضد طلائع العلمانيين في بلاد المسلمين بكتبه: "فهرس الفهارس"، و"التراتيب الإدارية في الحكومة النبوية"، و"تبليغ الأمانة في مضار الإسراف والتبرج والكهانة"، هذا مع الدفاع عن أيمة السنة والأثر، وتزكية مناهجهم والانتساب لطريقتهم، وعد نفسه من رجالهم.
وكتبه كلها شاهدة على ذلك. وله كتاب "البحر المتلاطم الأمواج"، في نصرة السنة في مجلد كبير، لما وقف عليه الإمام محمد المكي ابن عزوز التونسي ذهل لما فيه من علم وقال: "إن الطائفة المنصورة بالمغرب هي الطائفة الكتانية"، وقد كان ابن عزوز من دعاة السنة والأثر، وكان من أواخر مشايخ الإسلام في الدولة العثمانية. رحمه الله تعالى.
وممن سار على هذا المنهاج: ولدا الإمام أبي الفيض: محمد المهدي ومحمد الباقر.
فأما محمد المهدي (ت1379) فله مؤلف في تفضيل مذهب السلف على مذهب الخلف في العقائد، ومؤلف في براءة الطريقة الكتانية من الخارجين عن الكتاب والسنة.
واما أبو الهدى محمد الباقر (ت1384) فكان لا ينتسب إلا للأثر، مع الاشتغال بالحديث والتظاهر بالعمل به والدعوة إليه مشرقا ومغربا، حتى ترك أكثر من مائة مؤلف في شتى الفنون منها جملة في ذلك، ككتابه "سبيل الجنة في الاعتصام بالسنة".
وكذلك كان ولده جدنا للأم أبو هريرة عبد الرحمن (ت1401)، ويظهر ذلك في تراجمه ضمن كتابه "من أعلام المغرب في القرن الرابع عشر"، فإنه يؤكد على ترك التعصب للمذهب والعمل بالدليل. هذا مع ما تجشمه مع والده وبعد وفاته من الدفاع عن شريعة الإسلام بعد أن عطلت عن الحكم، والمطالبة بتحكيمها ليكتمل إسلامنا واستقلالنا. رحمهم الله أجمعين.
وممن ظهر بمدرسة جليلة أوائل القرن الماضي وكان له تأثير كبير: الإمام الشريف مصطفى ماء العينين الشنقيطي رحمه الله تعالى. فقد أسس في الجنوب المغربي زاوية جليلة. وكان أيضا ممن يدعون للعمل بالدليل مع عدم نبذ المذهب، وقد صنف كتابه الجليل "دليل الرفاق على شمس الاتفاق" في أربعة مجلدات، يذكر فيها الخلاف العالي ودليل كل مذهب. فهذا أشبه ب "بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد. وصنف "المرافق على الموافق" وهو مختصر لموافقات الشاطبي في الأصول ومقاصد الشريعة. وكان من أول من دعا للاعتناء بهذا الكتاب، واول من قام بتدريسه لتلامذته في زواياه.
هذا مع الجهاد العظيم للمحتل الفرنسي والإسباني، وبذل النفس والمال والولد في ذلك، توفي في تيزنيت سنة 1328هـ. وخلفه أبناؤه العظام في الجهاد ومقارعة العدو المحتل، وللقوم مؤلفات جليلة في هذه المعاني، فلا جرم كان بينهم وبين أهل بيتنا مودة ومحبة أكيدة، وتعاون على البر والتقوى.
-يتبع-
¥