والمخالفون فى هذه القاعدة من أهل الظاهر و نحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام وكل عقد حرام فوجوده كعدمه وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم.
و قد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية إن كان النبى صلى الله عليه وسلم أراد أن الشروط التى لم يبحها الله وإن كان لا يحرمها باطلة فنقول قد ذكرنا ما فى الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها، وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضى أن تكون مباحة فانه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك لأن قوله ليس فى كتاب الله إنما يشمل ما ليس فى كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه فإن ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه فى كتاب الله لأن قولنا هذا فى كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص و بالعموم و على هذا معنى قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)، و قوله: (ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كل شيء)، وقوله: (ما فرطنا فى الكتاب من شيء)، على قول من جعل الكتاب هو القرآن و أما على قول من جعله اللوح المحفوظ فلا يجيء ههنا، يدل على ذلك أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب ان يكون فى كتاب الله و قد لا يكون فى كتاب الله بخصوصه لكن فى كتاب الله الأمر باتباع السنة و اتباع سبيل المؤمنين فيكون فى كتاب الله بهذا الاعتبار لأن جامع الجامع جامع ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار" إلى آخر كلامه رحمه الله وانظره في الفتاوى 29/ 160 - 164.
وقد أجاب فيه كما ترى على احتجاج الظاهرية بهذا الأثر من ثلاثة أوجه بين أن المراد بشرط ليس في كتاب الله أي مخالف له أو نحو ذلك، ولشيخ الإسلام كلام في مواطن أخرى ولعل في هذا كفاية.
أما المسألة الثانية وهي الاحتجاج بقول الله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك).فمن ما يقال في جوابه:
1 - الاشتراط ولاسيما في النكاح مما أباحه الله بل بين أنه أولى الشروط بالوفاء.
2 - ليس في الآية نهي أو تحريم أن يمنع الإنسان نفسه من شيء، ولم يقل الله: يا أيها النبي حرام أن تمنع نفسك من كذا، وإنما الآيات في بيان أن من منع نفسه من شيء (حرم = منع) فقد قدر الله له مخرجاً هو كفارة القسم.
3 - النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره فإن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شئ كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك. بخلاف غيره من أحاد الناس. وقد قال بضهم: "نسبة التحريم إليه صلى الله عليه وسلم مجاز، والمراد لم تكون سبباً لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه"، وعلق على ذلك الألوسي بقوله: "وهذا لا يحتاج إليه" وهذا لأن التحريم نفسه على ضربين تحريم لاعتقاد عدم الحل، وتحريم هو مجرد الامتناع كما في حال تحريم الزوجة مثلاً. فإذا كان الأمر كذلك لم يحتج إلى أن يقال هو مجاز بل حقيقة ووضع لغوي صحيح.
4 - قال آخرون كابن المنير في تعقبه صاحب الكشاف ما حاصله: " تحريم الحلال على وجهين: الأول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلاً، والثاني: الامتناع من الحلال مطلقاً أو مؤكداً باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض، ولو كان ترك المباح والامتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال، وما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقاً به وتنويهاً بقدره وإجلالاً لمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جرياً على ما ألف من لطف الله تعالى به".
فهذه بعض الأوجه التي تبين أن الآية لا تصلح دليلاً على منع اشتراط الشروط المباحة، والطاقة لا تتسع لنقل غيرها.
وأخيراً أقول لأبي عمر الطباطبي وفقه الله:
تعليقاً على قوله: " فهذا المباح منصوص عليه بكلام الله تعالى وهنا لا يجوز اشتراط خلافه، لأن الشرط يكون مؤديا إلى منع ما نص الله تعالى على إباحته، .. "
الأمر المباح بكتاب الله ليس لي أن ألزم الآخر بخلافه، ولكن لو التزمت لآخر بفعله أو تركه جراء مقابل فإن ذلك لي، داخل ضمن ما أباحه الله لي بالنص، وإن أردت الخروج عن ذلك الالتزام إلى طرف الإباحة الآخر بإرجاع المقابل فإن ذلك لي، وهذا في حقيقته ليس خروجاً عما أباحه الله بل هو تردد بين طرفي المباح.
وهذه هي صورة الشرط الذي يلتزمه المرء على نفسه، بخلاف الحكم والتشريع اللازم الذي يوجب على الناس ما أباحه الله أو يحرمه عليهم، أو يقيد ما أطلقه ونحو ذلك ثم على الناس أن يلتزموه وإن لم يرضوا به وليس لهم خيار في الرجوع عنه ولا لهم مقابل في سبيل إحجامهم عنه. ففرق بين المسألتين على أن في أصل المسألة بحث لا يُتشعب إليه.
ـ[إحسان العتيبي]ــــــــ[31 - 01 - 06, 02:01 م]ـ
شكر الله لك أخي حارث
فوائد نفيسة
وأقول - والعلم عند الله تلخيصاً لمعنى الآية -:
آية {لم تحرِّم ما أحل الله لك} معنى التحريم هنا " لغوي " أي: تمنع نفسك لا أن ينسب ذلك للشرع محرماً له، بدليل أنه حرَّمه على نفسه لا على الأمة.
والحرام الذي في الشروط هو ما نص الشرع على تحريمه كاشتراط طلاق الضرة أو عدم القسم لها ...
وأما " الحرام " بمعناه اللغوي فيبقى على الجواز وهو أن تشترط عليه أن " يمتنع " عن فعل شيء مباح، لا أن تشترط عليه " تحريم " مباح ناسباً ذلك للشرع.
والله أعلم
¥