تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وذلك لأنَّه عبادة يتقرب بها العبد لربِّه بترك محبوباته، وقمع شهواته، فيضبط نفسه بالتقوى ومراقبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كل مكان وزمان، ولهذا يقول المولى سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).

وإذا تأمَّلنا أمره ـ تعالى ـ لعلَّنا نستنتج أنَّ هذا ـ والله أعلم ـ من باب التسلية للمؤمنين حين أوجب عليهم الصيام، فبيَّن لهم أنَّه قد فرض الصيام على من كان قبلهم من الأمم في الدهور المنصرمة، فلا يتعجبوا حين فرض عليهم الصوم، ثمَّ قال تعالى: (لعلكم تتقون) وهذا هو المقصد الأسمى، في حكمة مشروعية الصيام. (فهو لجام المتَّقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين من بين سائرالأعمال، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئاً، وإنَّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذُُّّذاتها إيثاراً لمحبَّة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطَّلع عليه سواه، والعباد قد يطَّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأمَّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطَّلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم) كما يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في زاد المعاد (2/ 29).

ولهذا فإنَّ من تقوى المسلمين الصائمين لربِّهم أنَّهم لو ضربوا على أن يفطروا في شهر رمضان لغير عذر لم يفعلوا، لعلمهم بكراهية الله لإفطارهم في هذا الشهر، ولا ريب أنَّ هذا كما قال ابن رجب: (من علامات الإيمان حيث يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أنَّ الله يكرهه) (لطائف المعارف/صـ288) بل إنَّ هذا من أبلغ حكم الصيام لتدريب النفس على التقوى ومحاسبة النفس على التقصير والنقص.

وصدق الله ـ ومن أصدق من الله قيلاً ـ حين قال عن حكمة تشريع الصوم: (لعلَّكم تتقون)، فإنَّ من أعظم العبادات التي يتدرب بها العبد على ممارسة التقوى والتكيف معها هي عبادة الصيام، ولأجل ذا صار من أعظم الطاعات وأجل القربات، ليكون الصائم مقبلاً على الله تعالى، خاضعاً بين يديه، ومجاهداً نفسه ومحاسباً لها في تقصيره، فتكون نتيجة من نتائج التقوى، وقد قال ميمون بن مهران ـ رحمه الله ـ: (لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه) ذكره أبو نعيم في الحلية، وابن أبي شيبة في المصنف.

وحينئذٍ يرتقي الإنسان لمسالك العبودية، ومدارج التميز، لأنَّه حفظ هذه الأمانة، وجعلها منتصبة تجاه عينيه، ولذا صار الصيام سراً بين العبد وربه؛ لأنَّه قد يخلو الإنسان بنفسه فيكون عنده مثلاً شيء من الطعام، فتتحرك غريزة الأكل لديه، فيقمعها بسلطان التقوى، ويلجمها بلجام المراقبة، فإنَّ عبادة الصوم هي عبادة السر، ولهذا يقول الله ـ تعالى ـ في الحديث القدسي الصحيح: (كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) أخرجه الشيخان.

فيكون هذا الترك لأجله ـ تعالى ـ طريقاً موصلاً بنا إلى الجنة ومكفِّراً لذنوبنا، وقد قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) أخرجه البخاري ومسلم، ومعنى إيماناً: أي إيماناً بوجوبه، ومعنى احتساباً: استشعاراً بالأجر عند ربِّه، كما قاله العز بن عبدالسلام في كتابه مقاصد الصيام (صـ34)

ويكفي أنَّ العبد المؤمن يشعر بصيامه أنَّه عبد لله حقَّاً، فإنَّ كمال الحرية في تمام العبودية لله، فلا يأكل الإنسان إلا إذا ابتدأ الوقت الذي بيَّنه الله أنَّه وقت للإفطار، ولا يصوم إلاَّ إذا ابتدأ وقت الصيام، فهي عبودية كاملة لله، وأمانة يؤدِّيها العبد لربِّه، ولهذا يقول المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: (إنَّ الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود بسند حسن.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير