قد يفهم بعض الناس من عدم حفاوة الشيخ ابن باز بالإجازات المعاصرة، إنكارَه لخصيصة هذه الأمة بالإسناد، و"الإسناد من الدِّين"، وهذا ألبتة ليس بصحيح؛ بل الإسناد المتَّصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - به رُوي كلامُ الله القرآنُ، وحديثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضحُ البيان، وهذا الإسناد بتحمله، وصيغه، وأحواله، أنواع، كما قرره الحافظ العراقي في "ألفيته":
ثُمَّ الإِجَازَةُ تَلِي السَّمَاعَا ** وَنُوِّعَتْ لِتِسْعَةٍ أَنْوَاعَا
هذا، وتحفُّظ سماحة شيخنا هو على اشتغال المعاصرين بالإجازات وتتبُّعها، والغلو في جمعها والتكاثر بها، وترك الاشتغال بمقاصد تلكم الأسانيد، بالقرآن والسنة حفظًا وتعلُّمًا، ودعوة وعملاً وجهادًا، ما صار علمًا على المبتدعة، وأهل الأهواء من الصوفية، ومتعصبة بعض المذاهب الفقهية؛ فلا بد من التنبيه لهذا التفريق ولا بد.
المبحث الثالث: عناية الشيخ ابن باز بكتب متون الحديث وشروحها:
وهذه العناية لها في مسلك الشيخ ابن باز العلمي جانبان بارزان:
الأول: جانب طلب العلم، حيث بدأ بمختصرات المتون الحديثية، ثم كتب الأحكام في "عمدة الأحكام"، للشيخ عبدالغني المقدسي، ثم "بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم "منتقى الأخبار"، للمجد بن تيميَّة، ثم في "صحيح البخاري"، ومسلم، والسنن، والمساند، ومصنفات الحديث النبوي.
وكان حالَ الطلب يراجع على هذه المتون وشروحها الشهيرة المتداولة بين أيدي طلبة العلم، نحو:
- شرح ابن دقيق العيد على "عمدة الأحكام"، وحاشية ابن الأمير الصنعاني عليه.
- وشرح ابن الأمير الصنعاني 1181هـ على "البلوغ"، المسمى "سبل السلام شرح بلوغ المرام".
- وشرح الشوكاني 1250هـ على "المنتقى"، والمسمى "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار".
وأعظم الشروح التي كان الشيخ يبحث فيها ويراجع عليها، شرح الحافظ الكبير ابن حجر على "صحيح البخاري"، والمعروف "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، فكان الشيخ حفيًّا به وبمطالعته، معجبًا بتقريرات الحافظ ونقوله فيه، وتنوع مباحثه ومتونه.
الجانب الثاني: جانب التعليم وبذل العلم: اعتنى الشيخ واحتفى في دروسه العامة المرتبة لطلاب العلم بكتب شروح الحديث، والتقرير عليها، ولهذا لم يخلُ درس من دروس الشيخ العلمية المرتبة فجرًا وضحًى وليلاً من القراءة في كتب المتون، وخصوصًا صحيحي البخاري ومسلم، كتب السنن: سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، ومراجعة كتب شروحها.
أما "بلوغ المرام" و"عمدة الأحكام"، فكانت دروس الشيخ فيهما راتبة يكررها، ولا سيما "البلوغ"؛ ولهذا كثرت على البلوغ شروح الشيخ وتقريراته عقب صلاة العصر، ويبن أذان العشاء وإقامتها، فضلاً عن الدروس العلميَّة المرتبة فيه.
وكان الشيخ حفيًّا بمطالعة كتب الشروح؛ للتحضير منها، ومراجعة البحوث فيها في مكتبه، ومع خواص أصحابه وطلابه، حيث ينشط لهذا نشاطًا متميزًا.
حفاوة الشيخ بشروح الصحيح أنموذجًا:
وهذا النموذج أسوقه معتبرًا به، حيث لم يكن درس علمي مرتب للشيخ إلا ونجد قراءة فيه لأحد الصحيحين، وقد سمعت على شيخنا أكثر "صحيح البخاري" في دروسه قراءات متعددة متنوعة، فمنها ترتيب في أول الصحيح، ومنها ترتيب في أوسطه، وآخر في أواخره.
وقد لاحظت وشاهدت كثرة مراجعة الشيخ في شرحي "صحيح البخاري":
1 - "فتح الباري"، للحافظ ابن حجر العسقلاني.
2 - "عمدة القاري"، للشيخ البدر العيني.
حيث يطلب من الطلبة قراءةَ ما ذكره الشارحان في المسألة، أو الحديث محل البحث وموضع الاستشكال عليه، وذلك بعدما يقرر الشيخ على الحديث ما يفتح الله منه عليه، ولهذا كان الطلبة يتسابقون لإحضار أحد الشرحين أو كليهما وقت الدرس، ولم نكن نحضر متن الصحيح فقط؛ بل ومعه أحد الشرحين، وكنت أحضر معي نسختي من "الفتح".
¥