5 - وهذا تعليق يُظهر أثر أصول الحديث تطبيقًا في مسألة من العقيدة، تعليقًا على قول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "ومن طريق أبي عوانة عن رجل، قال: قدمتْ عائشةُ ذا طوى، حين رفعوا أيديهم عن عبدالرحمن بن أبي بكر، فأمرتْ بفسطاط فضُرب على قبره، ووكلت به إنسانًا وارتحلت"، علق الشيخ ابن باز على هذا بقوله: "هذا الأثر ضعيف؛ من أجل الرجل المبهم، وعلى فرض صحته، فالصواب ما فعله ابن عمر؛ لعموم الأحاديث الدالة على تحريم البناء على القبور، وهي تشمل بناء القباب وغيرها؛ ولأن ذلك من وسائل الشرك بالمقبور؛ فحرم فعله كسائر وسائل الشرك - والله أعلم". ا. ه (24).
6 - ومن تعليقاته المتصلة بعلل الحديث، قوله - رحمه الله - على خبر رفع اليدين في تكبيرات الجنازة: "وأخرجه الدارقطني في "العلل" بإسناد جيد عن ابن عمر مرفوعًا، وصوب رفعه؛ لأنه لم يرفعه سوى عمر بن شعبة، والأظهر عدم الالتفات إلى هذه العلة؛ لأن عمر المذكور ثقة فيُقبل رفعه؛ لأنَّ ذلك زيادة من ثقة، وهي مقبولة على الراجح عند أئمة الحديث، ويكون ذلك دليلاً على شرعية رفع اليدين في تكبيرات الجنازة - والله أعلم". ا. هـ (25).
7 - وكذا من إعلاله لخبر السؤال والجواب بين عيسى وجبريل - عليهما السلام - قولُ شيخنا - رحمه الله -: "لا ينبغي الجزم بوقوع هذا من عيسى؛ لأن كلام الشعبي لا تقوم به حُجة، وإن كان نقله عن بني إسرائيل فكذلك، وإنما يذكر مثل هذا بصيغة التمريض، كما هو المقرر في علم مصطلح الحديث، والله أعلم". ا. هـ (26).
8 - وعلق على مسألة روح المؤمن، مظهرًا الصناعةَ الحديثية بالحكم على الأحاديث المستدل بها - ومنهج الحكم على الأحاديث ظاهر جدًّا في تقريرات الشيخ وحواشيه، وفتاواه ومحاضراته - حيث قال: "خرج الإمام أحمد عن كعب بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه))، قال الحافظ ابن كثير في إسناد هذا الحديث: إنه إسناد صحيح عزيز عظيم، قال: ومعنى ((يعلق))؛ أي: يأكل، وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود مرفوعًا: ((أرواح الشهداء في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)) الحديث، والله أعلم". ا. ه (27).
9 - ومن دقيق تعليقات سماحة الشيخ المتعلقة بأصول الحديث ودقيق التخصص، قوله - رحمه الله -: "ظاهر كلام المزي في "التهذيب"، والشارح في "تهذيب التهذيب" في ترجمة أبي الأسود وترجمة عبدالله المذكور، أن عبدالله قد سمع من أبي الأسود، ولم ينقلا عن أحد أنه لم يسمعه منه، وذلك هو ظاهر صنيع البخاري هنا؛ لأنه لا يكتفي بالمعاصرة، والله أعلم". ا. هـ (28).
المبحث الخامس: عناية الشيخ ابن باز بأصول الحديث:
والمقصود بأصول الحديث ما عُرف عند المتأخرين "بمصطلح الحديث"، وهو علم من علوم الآلة؛ كأصول الفقه وعلوم العربية المتنوعة، فأصول الحديث آلة لفهم وثبوت وتعلم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والتفقُّه فيه، كما أن أصول الفقه آلة لفهم الأحكام الشرعية التفصيلية من أدلتها الشرعية، المسمى بعلم الفقه الإسلامي.
وتتضح عناية سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - بهذا الفرع من فروع السنة النبوية في جانبين مهمين، هما:
الجانب الأول: في مراحله الأولى في طلب العلم، وتلقيه على مشايخه، حيث حفظ الشيخ وقرأ متن "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، للحافظ ابن حجر - حيث لخصها وحررها الحافظُ من مقدمة ابن الصلاح الشهيرة، التي لا يُحصى كم ناظم لها ومختصر - وهكذا كانت عناية طلاب العلم في فن المصطلح بقراءة "النخبة"، قراءةَ حفظٍ لألفاظها، وفهْمٍ لمعانيها، وإدراكًا لمقاصدها، وقرأ شرح الحافظ نفسه على متن النخبة، المسمى "نزهة النظر شرح نخبة الفكر".
كما سمع الشيخ شرح الحافظ ابن كثير على مقدمة ابن الصلاح المسمى "الباعث الحثيث"، واعتنى - رحمه الله - بالألفية في مصطلح الحديث، للحافظ عبدالرحيم العراقي، فحفظها نظمًا، وتفهمها لفظًا، حيث كنت أسمعه يتمثَّل بها استشهادًا عند مناسبتها.
الجانب الثاني: في مرحلة بذل العلم بتعليمه، وعقد الدروس العلمية المرتبة لطلاب العلم، ونال علم المصطلح من ذلك حظه اللائق به من بين أنواع العلوم التي كان سماحة الشيخ يقررها على الطلبة.
¥