فرتب دروسًا كثيرة في تدريس "نخبة الفكر"، وأحيانًا بالقراءة فيها مع شرحها "نزهة النظر شرح نخبة الفِكَر".
كما درَّس نظم البيقونية، ويرى سماحته فيه أنه نظم مختصر جدًّا لا يفي بالمقصود، وأن عناية طالب العلم بالنخبة أنفع له، وأرجى لفائدته.
وبالنسبة إلى "ألفية الحديث" للحافظ العراقي، فكان سماحته يميِّزها على ألفية الجلال السيوطي 911هـ، ويفضلها عليها، مع قوله: فيهما الفائدة الجليلة لطالب هذا الفن.
وفي هذا الصدد أسوق نماذجَ تطبيقيةً من عناية الشيخ بأصول الحديث "المصطلح" علمًا وتطبيقًا في كتبه، ورسائله، ومقالاته:
- ففي بيان المتواتر ووجوب العلم به، قال سماحته حول بيان هيئة كبار العلماء في مجرمي حادثة الحرم، حول الأدلة على خروج المهدي في آخر الزمان: "أما إنكار المهدي المنتظر بالكلية كما زعم ذلك بعض المتأخرين، فهو قول باطل؛ لأن أحاديث خروجه في آخر الزمان، وأنه يملأ الأرض عدلاً وقسطًا كما ملئت جورًا - قد تواترت تواترًا معنويًّا، وكثرت جدًّا، واستفاضت كما صرَّح بذلك جماعة من العلماء، منهم أبو الحسن الآبري السجستاني من علماء القرن الرابع، والعلامة السفاريني، والعلامة الشوكاني، وغيرهم، وهو كالإجماع من أهل العلم". ا. هـ (29).
وقال - رحمه الله - تعليقًا على محاضرة حول عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر: "فإن المقبول عندهم أربعة أقسام: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، هذا ما عدا المتواتر.
أما المتواتر، فكله مقبول، سواء كان تواترًا لفظيًّا أو معنويًّا، فأحاديث المهدي من هذا الباب متواترة تواترًا معنويًّا، فتُقبل بتواترها من جهة اختلاف ألفاظها ومعانيها، وكثرة طرقها وتعدد مخارجها، ونصَّ أهل العلم الموثوق بهم على ثبوتها وتواترها". ا. هـ (30).
وقال سماحته - رحمه الله - في معرض مناقشته ابن حزم - رحمه الله - في حديث المعازف: ((ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف))؛ الذي رواه البخاري عن أبي عامر - رضي الله عنه - وأبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: "وقد أخطا ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطَّؤوه فيه؛ لأن هشامًا من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازمًا به، وما كان كذلك، فهو صحيح عنده، وقد قبل منه أهل العلم ذلك، وصححوا ما علقه جازمًا به إلى من علقه عنه، وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة.
ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه؛ لكونه رواه عنه بالإجازة، أو في معرض المذاكرة، أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات، فحذفه اختصارًا، أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف، وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلاً عن هشام بن عمار ... إلخ، بأسانيد صحيحة". ا. ه (31).
- وتعقب الشيخُ الحافظَ ابن حجر في ذكر مراتب رجال "التقريب" في المرتبة السابعة: "من روى عنه أكثر من واحد ولم يُوثَّق"؛ حيث علَّق الشيخ بقوله: "هذا يدل على أن صاحب المرتبة السادسة لا يكون مقبولاً، إلا إذا كان قد وثقه بعض الأئمة، وإلا لم يكن بينه وبين صاحب السابعة فَرقٌ، ويغلب على ظني أني قد وقفت على نسخة من هذا الكتاب ذكر فيها أصحاب المرتبة السادسة ما نصُّه: "وقد وثقه"؛ فليحرر، قاله الفقير إلى عفو ربه عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، حُرر في 13/ 3/1400هـ". ا. هـ (32).
المبحث السادس: عناية الشيخ ابن باز برجال الحديث:
وهذه العناية مظهر جليٌّ يظهر الاهتمام والحفاوة من العالِم بعلم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث لا يبرز لهذا الفن - العلم برجال الحديث ورواته - إلا مَن تعلق بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وتنقيتها، بتميز الصحيح المقبول، من الضعيف والمردود منها، ولا يتأتى هذا بحال إلا بنقد رواة الحديث وتمييزهم؛ فإن معرفة أحوال الرواة صحة وضعفًا، وجرحًا وتعديلاً وعدالة، سببٌ لقبول روايتهم واعتبارها.
ولهذا اعتنى علماء الإسلام بهذا الفن، وتميزوا به عن غيرهم من أتباع الملل والديانات الأخرى، فتأسَّى سماحة الشيخ بهؤلاء العلماء النقاد، وتأثر بهم، وسلك جادتهم.
¥