وهذا الاهتمام كان من أهم البواعث والأسباب في مقومات بلوغ الشيخ مرتبة عالية في الاجتهاد، وفي استنباط الأحكام الشرعية، والرجوع بالمسائل إلى أدلتها، والذي ما كان ليتأتى لسماحة الشيخ وأمثاله من العلماء والمجتهدين، إلا بالتأسي أولاً على الراجح من الأقوال في مذهب من مذاهب أهل السنة الفقهية المعتبرة، أيضًا فهم الشيخ واستعداده، وقبل ذلك حرصه وهمته إلى تتبع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديثه، وتقديمه على غيره، وترجيح الأقوال والمذاهب والمسائل باعتباره.
وقد نقم متعصبو المذاهب الفقهية المشهورة على سماحة الشيخ هذا المنهج، بدعوى قفل باب الاجتهاد، وانقطاع من يصل إليه من العلماء في الأزمان المتأخرة، ولكن سماحته لم يبالِ بهذا، ودرج على منهجه، وإن خالف المُفتى به من مذهب الحنابلة الذي درسه، أو خالف المشهور من المذاهب الأربعة، كما في جملة من مسائل الطلاق: طلاق الحائض، والطلاق الثلاث بلفظ واحد، وذيولهما.
ولاقى الشيخ في هذا عنتًا، لكن دروجه على العمل بالحديث، وترجيحه عند الخلاف على أقوال الجماهير ومشاهير الفتاوى، جعله لا يتراجع عن منهجه، وسماحة شيخنا في كثير من اختياراته وفتاواه يوافق اختيارات المحققين من العلماء، كشيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - بل وأضحى ما كان يُفتي به سماحته في هذه المسائل، هو المعولَ عليه في الفتوى بعده عند جماهير المفتين في البلاد السعودية وغيرها، وهذا حصل بالتتبُّع للمجامع والهيئات والمفتين في كثير منهم.
ولهذا الاهتمام نماذج كثيرة جدًّا من أقوال الشيخ وفتاواه، واجتهاداته وأحواله، ولئلا يطول المقام؛ أعرض نموذجًا واحدًا في مسألة اشتهرت عند متأخري المذاهب الحنابلة وغيرهم، في فضل ليلة النصف من شعبان (46)، وإحيائها بالصلاة والدعاء والذكر ونحو ذلك.
فقال - رحمه الله - في رسالة "حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان": "وقد ورد في فضلها أحاديثُ ضعيفةٌ لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها، فكله موضوع، كما نبَّه على ذلك كثير من أهل العلم، وسيأتي ذكر بعض كلامهم - إن شاء الله.
وورد فيها أيضًا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، والذي أجمع عليه جمهور أهل العلم أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة، وبعضها موضوع، وممن نبَّه على ذلك الحافظ ابن رجب في كتابه "لطائف المعارف" وغيره.
والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلُها بأدلة صحيحة، أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان، فليس له أصل صحيح؛ حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.
وأما ما اختاره الأوزاعي - رحمه الله - من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول، فهو غريب وضعيف؛ لأنَّ كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونُه مشروعًا، لم يَجز للمسلم أن يُحدِثه في دين الله، سواء فعله مفردًا أو في جماعة، سواء أسرَّه أو أعلنه؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد))، وغيره من الأدلة الدالَّة على إنكار البدع والتحذير منها". ا ه (47).
ونظائر هذا من كلام الشيخ وتقريراته وأحواله وفتاواه كثيرة، مكتفيًا بهذا عن التطويل بغيره، والله ولي التوفيق.
المبحث التاسع: عناية الشيخ ابن باز بالتخريج ودراسة الأسانيد:
وهذه العناية من سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - مظهر متقدِّم من آثار حفاوته واهتمامه بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال تنقيته وتصفيته مما دخل أو نحل عليه؛ إذ سبيل ذلك هو تتبع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مصادرها الأصلية، ومنحاه البارز في صحة العزو والتوثيق لها، وهو ما يعرف مدلوله ومفهومه عندهم بالتخريج.
أما دراسة الأسانيد، فمرحلة لاحقة تتلو تخريج الحديث النبوي من مصادره الأصلية المسندة؛ فأما التخريج فقد أضحى سمةً على عطاء سماحة شيخنا العلمي والدعوي، من خلال الإفتاء مباشرة بصوته، أو تحريرًا بكتابته، ومن خلال دروسه وتقريراته عليها، ومن خلال تصانيفه في رسائله ومقالاته وردوده، ومن خلال محاضراته وندواته؛ بل لا أبالغ إن قلت: إن مظهر تخريج الأحاديث القولية والفعلية، ملازم لما يصدر عن سماحته من عزو للأحاديث في المسموعات أو المكتوبات من سماحته على تنوعها.
¥