ثم انعكس هذا المظهر على تلاميذ الشيخ ومحبِّيه، والمتأثرين بسماحته، في محاضراتهم وتآليفهم وفتاواهم.
أما دراسة الأسانيد، فكان محورها في عناية الشيخ ابن باز أمرين:
1 - تكليفه طلابه بمراجعة أسانيد بعض الأحاديث محل البحث والمراجعة، حيث يرغب سماحته إلى بعض طلابه أو الباحثين بجمع طرق ذاك الحديث، وبيان الاختلاف فيها، وعليها، ومنها، والبحث في مداراتها.
وقد اعتاد طلاب الشيخ - بتوجيه سماحته - عند التخريج سوق الحديث بإسناده من مصدره الأصلي، من الصحيحين، أو السنن، أو المسانيد، أو الصحاح، أو المعاجم، أو الأجزاء والمصنفات.
2 - من خلال مراجعة كتب المخرجين من علماء الحديث "التلخيص الحبير"، و"نصب الراية"، للزيلعي، و"البدر المنير"، وكتب ابن الملقن، والبحوث في "فتح الباري"، إلى كتب المعاصرين في هذا الصدد، ومن أكثرها مراجعة تصانيف الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في التخريج ودراسة الأسانيد، ولا سيما: "إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل"، و"السلسلة الصحيحة"، و"السلسلة الضعيفة"، وأمثالها.
ولعناية سماحة شيخنا بالتخريج والحكم على الأحاديث، أو نقل أحكام العلماء عليها، كأحكام الترمذي والأئمة قبله وبعده - ألَّف رسالته الوجيزة النافعة الماتعة في بيان الأذكار اليومية وغيرها المشروعة العناية بها، وهي رسالة: "تحفة الأخيار"؛ حيث جاء في آخر مقدمتها قوله - رحمه الله -: "وقد رأيت جمع ما يسر الله - تعالى - مما صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأذكار والأدعية المشروعة عقب الصلوات الخمس، وفي الصباح والمساء، وعند النوم واليقظة، وعند دخول المنزل والخروج منه، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند الخروج للسفر والقفول منه.
وقد سميتها "تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من الأدعية والأذكار"، مقتصرًا على ما صحت به الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره". ا هـ.
ومن أمثلة هذه العناية بالتخريج في تحريراته وفتاواه - رحمه الله - على كثرتها جدًّا، ما جاء في رسالة لسماحته في حكم التصوير، حيث قال فيها: "وخرَّج أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني جبريل فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال الذي في البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومُر بالستر فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآان، ومُر بالكلب فيخرج))، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذ الكلب لحسن أو لحسين كان تحت نضيد لهما، فأمر به فأخرج.
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي منه، ولفظ النسائي: استأذن جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أدخل))، فقال: ((كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ فإما أن تقطع رؤوسها، أو تجعل بساطًا يوطأ؛ فإنَّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتًا فيه تصاوير))، وفي الباب من الأحاديث غير ما ذكرنا كثير". ا ه (48).
أما من النماذج التطبيقية لاهتمام سماحة شيخنا، وعنايته بدراسة الأسانيد، وحفاوته بذلك، البحوث التي كان يكلف بها طلبته في دروسه العلمية المرتبة، أو ما يكلف به الباحثين في المكتب وغيرهم، حتى إنه - رحمه الله - بعد قراءة البحث في تخريج حديث أو أحاديث، وسوق أسانيدها، والكلام عليها وعلى رواتها، يطلب صورًا من هذه البحوث يحتفظ بها في مكتبته؛ ليرجع إليها، ويطالع فيها.
ولكثرة هذه البحوث؛ أسوق عناوين جملة من هذه البحوث التي كلف سماحته العبدَ الفقير بتخريجها والكلام عليها، ذاكرًا للتوثيق واحدًا من أخصرها في هذا الصدد:
1 - بحث حديث أم سلمة - رضي الله عنها - في عود الحاج محرمًا عشية يوم النحر إذا لم يطوفوا بالبيت.
2 - بحث حديث: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المكاتب يقتل أن يُودى لما أدَّى من مكاتبته دية الحرِّ، وما بقي قيمة العبد".
3 - بحث حديث: ((خمس من فعل واحدة منهن كان ضامنًا على الله ... )) الحديث.
4 - بحث حديث أبي ذر - رضي الله عنه - في النهي عن إذلال السلطان.
5 - بحث طرق حديث الافتراق ورواياته.
6 - بحث حديث: ((إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم)).
¥