ذكر ابن رجب في "شرح العلل" {ص:373}:" أن الفقهاء المعتنون بالرأي [فقه لقياس و التفريع و استخراج العلل] لا يكادون يحفظون الحديث كما ينبغي، ويروون المتون بالمعنى."
روى شريك حديث أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد"، فرواه:"أنه كان يتوضأ برطلين من ماء".
قال ابن رجب: "و المد عند أهل الكوفة رطلان".
فهذا الحديث الذي رواه شريك بالمعنى لم يخرجه عن القصد الشرعي، لأنه كان من الفقهاء، الذين ربما لم يتقيدوا بالألفاظ ولكنهم يتقيدون بالمعاني و المقاصد.
وشريك ـ رحمه الله ـ كان ممن جمع بين الفقه و الحديث.
وبهذا التفصيل و بالذي سيليه نقول: إن ما كان من غالب أئمة الحديث [سأذكر قائمتهم فيما بعد] من قبول هذا الحديث و الاحتجاج به، لم يكن عن قلة دراية بأحوال رواته، وإنما التحقيق العلمي الدقيق، و البحث الطويل هو الذي أوجب عليهم اعتماده كدليل.
وهاهنا قاعدة هامة يجب ملاحظتها و قد ذكرها الحافظ في " النكت" عندما قال:" إن الترمذي ذكر في " الجامع" كتاب الحكام أنه سأل البخاري عن حديث شريك القاضي عن أبي إسحاق عن عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ قال: إن النبي صلى الله عليه و سلم قال:" من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته".
وهو من أفراد شريك عن أبي إسحاق، فقال البخاري:" هو حديث حسن".
قال ابن حجر:" وتفرد شريك بمثل هذا الأصل عن أبي إسحاق مع كثرة الرواة عن أبي إسحاق مما يوجب التوقف عن الاحتجاج به، لكنه اعتضد بما رواه الترمذي من طريق عقبة بن الأصم عن عطاء عن رافع ـ رضي الله عنه ـ فوصفه بالحسن لهذا."" النكت" {429/ 1}
فهاهنا ثلاثة أمور نبهنا إليها الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ:
الأول: التفريق بين أصول الحديث بقوله:" بمثل هذا الأصل"، فقد ينفرد الراوي بحديث يوافق أصلا معروفا عند المسلمين،أو العمل عليه وهذا لا يضر، وقد يكون ما انفرد به يخالف الأصول المعروفة أو الأحاديث الثابتة، وهاهنا يجب التوقف عن الاحتجاج به.
الثاني: النظر في حال المنفرد و المنفرد عنه إن كان الرواة عنه كثرة، فهذا مسلك للشك في تفرده، وبالتالي التوقف فيه {انظر معتمد الشيخ ناصر في المسألة}.
الثالث: إن الانفراد من شريك في رواية هذا الحديث الذي حسنه البخاري لم يضره، وهذا يوافق ما قلناه عنه سابقا عند قول الدار قطني عن شريك:" إنه ليس بالقوي فيما انفرد به"، وأن ذلك نسبي، وخير دليل على ذلك هذا الحديث.
و قد يقال: إن مقصود البخاري من قوله:"هو حديث حسن" أن الحديث غريب، أي: إنهم يطلقون كلمة"حسن" على الحديث الغريب.
فأقول: لقد فهم الترمذي من شيخه البخاري ـ وهو الذي باشر الكلام معه ـ أنه قصد الحسن المعروف وليس الغرابة، كما فهم الفهم نفسه ابن رجب في" شرح العلل" والحافظ ابن حجر في "النكت"
وجواب الترمذي للبخاري لا يفهم منه ما ذهب إليه الأفاضل، فإن الترمذي قال:" هو من أفراد شريك" ومعروف عند المحدثين معنى التفرد، فكان جواب البخاري:" هو حديث حسن" على الترمذي بأنه رغم تفرده فهو حسن، هذا ما يحتمله سياق الكلام، هذا أولا.
ثانيا: قال الذهبي في " الموقضة" {ص:32}:" ويلزم على ذلك أن يكون كل صحيح حسن، وعليه عبارات المتقدمين، فإنهم يقولون فيما صح:" هذا حديث حسن"".
قال ابن حجر:" قد وجد التعبير بالحسن في كلام من هو أقدم من الشافعي، لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي ومنهم من لا يريده" {النكت} {ص397/ 1}.
قال ابن رجب في " شرح العلل" {ص:229}:" فالحسن قد أطلقه قوم على الحديث الضعيف الذي لم يكن مردودا ولا منكرا، وماكان يوافق فقه المحدث"
ومما تجدر الإشارة إليه ونحن بهذا الصدد ما قاله الأخ الكريم صاحب رسالة " نهي الصحبة"فإنه ترجم لشريك بن عبد الله النخعي بقوله:"سيء الحفظ، قال عنه إبراهيم بن سعد الجوهري: أخطأ شريك في أربعمائة حديث"، وقال النسائي: ليس بالقوي وضعفه يحي بن سعيد جدا".
فإن قوله هذا، مكتفيا بهذا القدر من ترجمة شريك مما يوهم الناس مالا يحسن من مثله، فإن قول إبراهيم بن سعد الجوهري لم يثبته أحد من الحفاظ المترجمين لشريك، ومثله ما قيل في سفيان بن داود {أبو داود الطيالسي} صاحب المسند: من أنه أخطأ في ألف حديث!
¥