قلت: وهذا قد ورد صريحًا في رواية ابن عيينة في الباب الذى يلي هذا ولفظه: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وفي رواية الحميدي: (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم).
قال الداودي: يرى بضم أوله، أي: يظن، وقال ابن التين: ضبطت يرى بفتح أوله.
قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن، وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبدالرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: حتّى كاد ينكر بصره.
قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده.
قلت: ووقع في مرسل عبدالرحمن بن كعب عند ابن سعد91: فقالت أخت لبيد بن الأعصم: أن يكن نبيًا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله.
قلت: فوقع الشق الأول، كما في هذا الحديث الصحيح، وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى: حتى كاد ينكر بصره، أي: صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمّله عرف حقيقته، ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به.
وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده فقد مضى في الصحيح: أنّ شيطانًا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه.
فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام أو عجز عن بعض الفعل أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: ((أما أنا فقد شفاني الله)). وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعى أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في "الدلائل" فكان يدور ولا يدري ما وجعه، وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد92: مرض النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذ عن النّساء والطّعام والشّراب فهبط عليه ملكان. الحديث.
4 - قال عبدالرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" ص (249): وذكر (يعني أبا رية) كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث: أنّ يهوديًا سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أقول: النظر في هذا في مقامات:
المقام الأول: ملخص الحديث أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فترة من عمره ناله مرض خفيف، ذكرت عائشة أشد أعراضه بقولها: (حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) وفي رواية: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن).
وفي أخرى: (يخيل إليه كان يفعل الشيء وما فعله). والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات، فالأخريان محمولتان عليها.
وفي "فتح الباري" (ج10 ص193): قال بعض العلماء: (لا يلزم من أنه يظن أنه فعل الشيء و لم يكن فعله، أن يجزم بفعله ذلك وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت).
أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه.
فالذي يتحقق دلالة الخبر عليه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم عالم أنه لم يجئها، ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذّى صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وليس في حمل الحديث على هذا تعسف ولا تكلف.
¥