فظهر أن القصة التي فيها ذكْرُ اختلاط سعيد؛ فيها أيضا امتناعُه عن التحديث حالَه، فلم يضر اختلاطُه روايتَه، فمَن أخذَ أولَ القصة وتَرَكَ آخرها فقد حاد عن النهج العلمي.
ثم هَب أن سعيد قد اختلط وحدّث، فمَن رواه عنه (وهو أبومسهر) عالمٌ بالحديث يَقظٌ متثبّت، بل أثبت الشاميين في زمانه عموما، وأثبتهم في سعيد خصوصا، وكان سعيد يقدّمُه ويخصُّه، وقد رفع من أمره وإتقانه جدا الإمامان أحمد وابن معين، ولا سيما الثاني. (انظر ترجمته موسعة في تاريخ دمشق 33/ 421 وتهذيب الكمال 16/ 369)
وأبومسهر عالم باختلاط شيخه، بل إن كشفَه لاختلاط شيخه من تثبّته، فيَبعُد أن يأخذَ عن شيخه ما يُحْذَرُ منه. (وانظر الصحيحة 7/ 690)
وفوق ذلك قال الإمام الألباني رحمه الله (الصحيحة 4/ 616) بعد أن ذكر متابعة أربعة من الثقات لأبي مُسهر: "فهذه خمسة طرق عن سعيد بن عبد العزيز، وكلهم من ثقات الشاميين، ويبعد عادة أن يكونوا جميعا سمعوه منه بعد الاختلاط، وكأنه لذلك لم يُعله الحافظ بالاختلاط".
بقي قولُ أبي حاتم إن عبد الرحمن لم يسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر في صحة الحديث، لأن أبا حاتم نفسه قد نص على صُحبة ابن أبي عَميرة كما في الإصابة (6/ 308)، وكما قال ابنُه عبد الرحمن (الجرح والتعديل 5/ 273)، فغاية ما هنالك أن تكون روايته من مراسيل الصحابة، وهي مقبولة محتج بها عند أهل العلم، وأمثلتها كثيرة.
وربما كان كلام أبي حاتم منصبا على قول عبد الرحمن: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم"، فيحكم أبوحاتم أن اللفظة غير محفوظة (قارن بصنيع البخاري في التاريخ 5/ 240)، فربما أخذ الحديث عن صحابي آخر، وهذا لا يؤثر في صحة الحديث، كما يقع في روايات بعض الصحابة رضي الله عنهم جميعا مثل الحسن والحسين وابن عباس لأحاديث لم يُدركوها، وهذه لا تجد أحدا من أهل العلم والفهم يدفعُ صحتَها بدعوى عدم سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم.
علما بأنه وقع سماع عبد الرحمن بن أبي عَميرة في هذا الحديث في كثير من مصادره، وفي بعضها التصريح من الراوي عنه بأن عبد الرحمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة القول أن العلة التي ذكرها أبوحاتم أراها من النوع المسمى: العلة غير القادحة، على أنني أستفيد من كلامه أنْ لو كانت هناك علة للحديث سوى ما قاله لذكرها.
فتبيّن مما سبق أن سائر ما أُعلّ به الحديث ليس بقادح، وأن المحفوظ منه صحيح السند، ورجاله ثقات أثبات، وثبّته جمع من الحفاظ، فالحُكْمُ لهم، والله تعالى أعلم.
تتمة القول في صُحبة عبد الرحمن بن أبي عَميرة:
ذكَره في الصحابة: ربيعة بن يزيد، وابنُ سعد، ودُحيم، وسليمان بن عبد الحميد البهراني، وأحمد، والبخاري، وبقي بن مخلد (مقدمة مُسنده رقم 355)، والترمذي (تسمية الصحابة رقم 388)، وأبوحاتم، وابن السكن (الإصابة)، وابن أبي عاصم، ويعقوب بن سفيان في المعرفة (1/ 287 وانظر 1/ 238)، وأبوالقاسم البغوي في معجم الصحابة (4/ 489)، وابن أبي حاتم (الجرح 5/ 273)، وابن حبان في الثقات (3/ 252)، وأبوبكر بن البرقي في كتاب الصحابة، وأبوالحسن بن سميع في الطبقة الأولى من الصحابة، وأبوبكر عبد الصمد بن سعيد الحمصي في تسمية من نزل حمص من الصحابة، وابن منده، وأبونعيم، والخطيب في تالي تلخيص المتشابه (2/ 539)، وابن عساكر، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/ 407)، والمِزّي، والذهبي في تاريخ الإسلام (4/ 309)، وفي التجريد (1/ 353)، وغيرهم.
ولم يخالف في ذلك إلا ابنُ عبد البر ومن تابعه بعده؛ كابن الأثير.
ورَدّ على ابن عبد البر وصحّح صُحبة عبد الرحمن: ابنُ فتحون، وابن حجر في الإصابة (6/ 309)
وانظر تاريخ دمشق لابن عساكر (35/ 231) والإنابة لمغلطاي (2/ 24) والإصابة (6/ 308)
ومما يتصل بترجمة عبد الرحمن بن أبي عَميرة رضي الله عنه:
اختُلف في اسم عبد الرحمن ونسبته، وصوّب أبوحاتم في العلل؛ وغيرُه أن اسمه عبد الرحمن بن أبي عَمِيرة، وضَبَطه ابن ماكولا في الإكمال (6/ 276 و279) بفتح العين، وكسر الميم، وأوسعُ من ترجم له -فيما رأيت- ابنُ عساكر في تاريخه (35/ 231)، وصوّب أنه مُزني، وتبعه المزي وغيره.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد زياد بن عمر التكلة، الرياض 14/ 11/1425
ـ[عبدالله المزروع]ــــــــ[26 - 12 - 04, 04:45 م]ـ
جزاك الله خيراً،
وأنا أقول: " اللهم اجْعَلْ الشيخ هادياً مَهْدياً، واهْدِ به".
ـ[محمد زياد التكلة]ــــــــ[26 - 12 - 04, 04:51 م]ـ
ولك بمثل أخي المحب، والله يرفع قدرك في الدارين، ويجعلنا ممن ينصر الله بهم السنة.
وهنا تخريج صنو هذا الحديث في معاوية: "اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب" http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=124246&posted=1#post124246
وهنا بيان بُطلان القصة التي اعتمد عليها أحمد الغماري في اتهام الصحابي الجليل معاوية بشرب الخمر والعياذ بالله: http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showt...4241#post124241
¥