وتبع النووى جماعة من الشرَّاح، ونقلوا كلامه بلفظه، كما فعل المباركفورى فى ((تحفة الأحوذى)) (3/ 384)، وأبو الطيب العظيم آبادى فى ((عون المعبود بشرح أبى داود)) (7/ 65)، والشوكانى فى ((نيل الأوطار)) (4/ 324).
وذهب جماعة من الحفاظ إلى احتمال أن تكون عائشة لم تعلم بصيامه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا ((فإنِّه كان يقسم لتسع نسوةٍ، فلعله لم يتفق صيامُه في نوبتها))، قاله الحافظ الزيلعى فى ((نصب الراية)) (2/ 156).
وأما الإمام أبو بكر البيهقى، والحافظان الزركشى وابن حجر، فقالوا: فى حَدِيثِ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ زيادةٌ ينبغى قبولها والعمل بمقتضاها، والْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافِى. وزاد ابن حجر ((الفتح)) (2/ 460) قوله: ((ولعلَّه لم يصم لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل، وهو يحب أن يعمله، خشية أن يفرض على أمَّته)). وبهذا جزم الحافظ المناوى حاسما للشبهة عنده، فقال ((فيض القدير)) (5/ 474): ((يبعد كل البعد أن يلازم عدَّةَ سنين عدمُ صومه في نوبتها دون غيرها، فالجواب الحاسم لعِرْقِ الشبهة أن يقال: الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافِى على القاعدة المقررة)).
فهذه جملة التأويلات التى اعترضوا بها على دلالة حديث عائشة على نفى صيام العشر مجتمعةً متواليةً. ويمكن تلخيصها فى اعتراضاتٍ أربعٍ:
[أولها] أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهَا، ورأه غيرُها من أزواجه.
[ثانيها] العمل بحديث الْمُثْبِتُ لصيامه مُقَدَّمٌ على النافِى له.
[ثالثها] الجزم بصحَّة حَدِيثَ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ اِمْرَأَته عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ.
[رابعها] قصر دلالة حديث ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَل مِنْهُ فِي العشر)) على الترغيب فى الصوم.
ومن الواضح البيِّن أن الدافعَ لهذه التأويلات هو ثالث هذه الاعتراضات، أعنى الجزم بصحَّة حديث هُنَيْدَة بْن خَالِدٍ ((كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْع ذِي الْحِجَّة)). وقد تنبه إلى هذا الحافظ ابن القيم، فقال ((الهدى النبوى)) (1/ 164): ((والْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافِى إنْ صَحَّ)) اهـ، فقيَّد العمل بمفهوم هذه القاعدة بثبوت صحَّة الحديث.
والقصد: أنَّه ليس فيما ذكروا دليلٌ ناهضٌ على إحالة حديث عائشة عن دلالته ومفهومه، وليس وراء هذا الدافع الآنف ذكره إلا قولهم: لعلَّ .. ويحتمل!!. ولا يغيبنَّ عنك أنَّ أكثر شئٍ اُعترض به على صحاح الأحاديث ودلالتها، هو: لعلَّه كذا وكذا، ويُحتملُ كذا وكذا.
وليس واحدٌ من هذه الاعتراضات إلا وهو مدفوع بما هو أقوى منه، وكاشفٌ لخطئِه وبعدِه عن الصواب. فمن ذلك قول الزيلعى ((فلعلَّه لَمْ يتَّفقُ صِيَامُهُ فِي نَوْبَتِهَا))، فإنَّه مُضْحِكٌ مُبْكٍ، فهل يُتصَّورُ مضاءُ عشرة أيامٍ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مقيمٌ غيرُ ظاعنٍ، ينتقل بين أزواجه كلِّهن، ولا يوافق ذلك نوبة أحبِّ أزواجه إليه!، هذا مع قول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، قَالَ قَتَادَةَ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟، قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ. أخرجه أحمد (3/ 291)، والبخارى (268)، والنسائى ((الكبرى)) (5/ 328/9033)، وأبو يعلى (2941،3203،3176)، وابن خزيمة (231)، وابن حبان (1208)، والبيهقى ((الكبرى)) (7/ 54) جميعاً من طريق مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ به.
¥