واتفق والحاكم والخليلي على تسمية ما لا يحتمل من التفرد بـ (الشاذ)، ونص الحاكم على تسمية ما يحتمل من التفرد بـ (الشاذ) أيضاً ن ولم ينص الخليلي على هذا في ذلك الموطن.
فإذا أردنا وزن كلام الخليلي بمعايير المناطقة، باعتباره أن حده لا بد أن يكون جامعاً مانعاً لصفات (الشاذ)، بعدما شرحانه من كلامه= يكون تفرد من يحتمل ذلك التفرد ليس بـ (شاذ) عند الخليلي.
لكن سبق أن تلك المعايير أجنبية عن علوم الحديث، غريبة على علمائه، فلا يصح أن يوزن كلامهم بها.
ويكون الخليلي بذلك الشرح للشاذ، إنما أراد بيان قسمه المردود، لأنه هو القسم الذي كان وصفه بـ (الشذوذ) سبباً لرده وعدم الاحتجاج به. فهو لذلك، وبملاحظة منطوق كلامه وحده، غير مخالفٍ للحاكم، وليس عندنا ـ إلى الآن ـ ما يدل على أنه موافق له أيضاً. وإن كانت موافقته له هي الأقرب والأصل، لأن اصطلاحهما اصطلاح علمٍ واحدٍ، ولأن الحاكم شيخ الخليلي.
غير أني وجدت تطبيقاً عملياً للخليلي، يدل على أنه موافق لشيخه الحاكم، على تسيمة تفرد من يحتج بتفرده بـ (الشاذ)
حيث قال في (الإرشاد) عن العلاء بن عبد الرحمن الحرقي: ((وقد أخرج مسلم في (الصحيح): المشاهير من حديثه، دون هذا (1) والشواذ)) (2).
فها هو يطلق على مفاريد العلاء بن عبد الرحمن في (صحيح مسلم): أنها شواذ
ونخرج من هذا كله، بأن (الشاذ) عند الحاكم والخليلي معناه واحد، وحكمهما على أنواعه واحد، ورأيهما فيه متطابق تماماً
فالشاذ عندما: هو الأصل الذي انفرد بروايته راوٍ واحد. فإن كان المنفرد به يحتمل التفرد بمثله لحفظه وإتقانه وإمامته: لم يقدح ذلك في الاحتجاج بخبره ولم يمنع من تصحيحه، وإن كان المتفرد به مقبولاً لكنه ليس يحتمل التفرد به: فهو متوقف فيه لا يحتج به، وإن كان المتفرد به ضعيفاً: كان ذلك الحديث شديد الضعف غير نافعٍ للاعتبار.
وبعد هذا الذي استخلصناه من كلام الحاكم والخليلي في تعريفهما لـ (الشاذ)، نرجع إلى التذكير بموقفهما من كلام الشافعي عنه.
أما الخليلي فالظاهر أنه اعتبر كلام الإمام الشافعي ومن وافقه من أهل الحجاز مذهباً لهم، واصطلاحاً خاصاً بهم، في استعمال مصلطح (الشاذ).
ولعل موقف الحاكم من كلام الإمام الشافعي مثل موقف الخليلي منه، حيث ذكر الحاكم كلام الشافعي عقب تعريفه هو للشاذ، دون إشارة إلى قبول أو رد، من ظهور اختلاف كلام الشافعي عن كلامه في تعريف الشاذ.
إلا أن موقف الحاكم من كلام الإمام الشافعي يحتمل فيه أيضاً أنه مختلف عن موقف الخيلي، بأن يكون الحاكم فهم كلام الشافعي فهماً لا يعارض شرحه هو لمصطلح الشاذ. وقد يؤيد ذلك: أن الحاكم أورد كلام الشافعي (وهو إمامه) عقب كلامه دون استدراكٍ أو معارضةٍ أو أي تعقيب، كهيئة المستدل بكلامه المحتج به وهذا ظاهر لمن نظر في سياق كلام الحاكم، كما ذكرناه سابقاً (3).
فيحتمل أن يكون الحاكم قد فهم من كلام الإمام الشافعي، أن (الشاذ) في كلامه لم يرد بالمعنى الاصطلاحي، وإنما ورد فيه بالمعنى اللغوي. فالشافعي حينها لم يقصد تعريف (الشاذ) اصطلاحاً، وإنما أراد بيان أولى أحوال الرواية وصفاً بالشذوذ لغةً
ولا شك أن الوصف بـ (الشذوذ) لغةً يقتضي الانفراد عن جماعةٍ، ويوحي أيضاً بذم هذا المنفرد. وهذا المقتضى والموحى به أوضح وأبين في (مخالفة المقبول لمن هو أولى منه) من (انفراد الراوي بأصلٍ لا متابع له عليه). وإن كان (انفراد الراوي بأصل لا متابع له عليه) فيه انفراد عن جماعة الرواة بنقل ذلك الأصل أيضاً، وفيه إيحاء بذم المنفرد به كذلك، برد أكثر الشواذ، إلا ما تفرد به إمام حافظ يحتمل ذلك التفرد. لكن تحقق ذلك المقتضى والمحى به من معنى (الشاذ) لغةً في الذي ذكره الشافعي أكثر من اصلاح المحدثين فيه، كما سبق.
وليس في ذلك مشاحة من الإمام الشافعي لاصطلاح المحدثين في (الشاذ)، لكنه بيان لأحق أحوال الرواية بذلك الوصف لغةً، وإن كان الاصطلاح عند الشافعي على غير ذلك.
¥