وقال عن آخر: ((هذا حديث شاذ صحيح الإسناد)) (1).
وقال كذلك: ((هذا متن شاذ، وإن كان كذلك، فإن إسحاق الدبري صدوق ... ـ ووثق بقية رجال إسناده قبل الدبري ـ)) (2).
وقال الحاكم أيضاً في (سؤالات السجزي له): ((بهز بن حكيم: من ثقات البصريين، ممن يجمع حديثه. وإنما أسقط من الصحيح: روايته عن أبيه عن جده، لنها شاذة لا متابع لها في الصحيح)) (3). ومع ذلك فقد أكثر الحاكم الإخراج في (المستدرك) لبهز بن حكيم، مصححاً لحديثه عن أبيه عن جده (4).
وبذلك لا يبقى عندك شك في أن الشذوذ عن الحاكم ليس وصفاً مناقضاً للصحة، بل هو عبارة عن وصف الحديث بالتفرد بأصلٍ لا متابع له فيه، بغض النظر عن قبوله أو رده.
ثم وازن بين كلام الحاكم وتصرفه هذا، وهو من أهل الاصطلاح، بما استقر عند المتأخرين من أن الشذوذ قسم من أقسام الضعيف
وما أحسن احتراز ابن الصلاح وإشارته الدقيقة إلى ذلك ن عندما قال: ((الشاذ المردود قسمان .. ))، فقوله (المردود)، فيه إشارة إلى أن من الشاذ ما هو مقبول غير مردود. وإن كان كلام ابن الصلاح قبل كلامه هذا، في الموطن نفسه: (نوع معرفة الشاذ) ن يوحي إيحاءً يكاد يكون تصريحاً بخلاف ذلك الاحتراز الحسن وبغير تلك الإشارة الدقيقة
فانتهينا إذن إلى أن من الشاذ ما هو صحيح محتج به عند الحاكم، فهل الخليلي يخالفه؟
إن ظاهر كلام الخليلي في هذا الموطن: أن الحديث الفرد، سواء كان من رواية ثقة أو غير ثقة، فهو حديث لا يحتج به. لكن هذا الظاهر لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ من له أدنى علمٍ بعلم الحديث، لن رد الغرائب والأفراد كلها لا يقول به أحد من أهل الحديث. وإذا كان هذا الظاهر على هذه الدرجة من ظهور رده ووضوح بطلانه، فلا يمكن أن نظن بأحد حفاظ الحديث ونقاده أنه يقول به وعلى هذا بلا بد من تفسير كلام الخليلي بما لا يخالف البدهيات، وتأويله بما لا يناقض الإجماع وهذا أباح للخليلي التعبير بمثل هذا التعبير، وهو الذي رخص له عند نفسه أن لا يعقد عبارته بما البدهي كافٍ فإفهامه والإجماع كفيل بتقييده. وهذا مثال آخر وجديد، على سهولة عبارات أئمة الحديث، وخروجها على سليقة العرب: في صفائها ن ووضوحها، وبعدها عن تطويل العبارة أو تعيدها، بما العقول السليمة تعقله، والأفهام الصحيحة تدركه.
ولك أن تعجب بعد ذلك من مواقف بعض المتأخرين من عبارة الخليلي تلك والتي جاء أمثلها قول من فهم كلام الخليلي بناءً على تصريح الخليلي في موطن آخر م (الإرشاد)، بأنه يصحح افراد الحفاظ الثقات. وهذا وإن كان دليلاً صحيحاً على عدم جواز فهم كلام الخليلي السابق على إطلاقه، من أنه يرد الأفراد ولا يحتج بها مطلقاً= إلا أنه استدلال حاجة لنا فيه، بعد أن فهمناه بداهةً، وعلمناه بالإجماع
وإذا كان الخليلي لم يشذ عن الإجماع ولم يخالف البدهيات، في أن أفراد الحفاظ صحيحة محتج بها اتفاقاً، فما هو معنى قوله عن الشاذ: ((يشذ بذلك: شيخ ثقة كان، أو غير ثقة ... وما كان عن يتوقف فيه ولا يحتج به))؟
أجاب عن ذلك ابن رجب الحنبلي في (شرح علل الترمذي)، حيث قال: ((لكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم: عبارة عمن دون الأئمة الحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره ... وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وما ينفرد به إمام أو حافظ؛ فما انفرد به إمام حافظ: قبل واحتج به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ ن وحكى ذلك عن حفاظ الحديث)).
إذن فالقسم المردود من أفراد الثقات عند الخليلي: هو الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف. وما سوى هذا القسم من أفراد الثقات، فهو مقبول محتج به، وهو انفراد من كان يحتمل التفرد بما تفرد به.
وهذا كله في معرفة ما يقبله وما لا يقبله الخليلي من أفراد الثقات، ويحكيه عن أهل الحديث. لكن مسألتنا ك هل الشاذ عند الخليلي هو هو عند الحاكم؟
أما حكم انفراد الثقات، فاتفق عليه الحاكم والخليلي، كما سبق عنهما. بتقسيمه إلى انفراد من يحتمل ذلك التفرد ن ومن لا يحتمله.
¥