ـ[عبدالوهاب مهية]ــــــــ[18 - 03 - 08, 11:13 ص]ـ
- و قيل: المراد بالنهي التحلق مطلقا سواء كان للمذاكرة أو للمحادثة أو لغيرهما؛ لأنه يقطع الصفوف و يخل بانتظامها.
قال العراقي: حمله أصحابنا و الجمهور على بابه لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين يوم الجمعة بالتبكير و التراص في الصفوف الأول فالأول.
و قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي " (2/ 119): و إنما نهى عن التحلق يوم الجمعة لأنهم ينبغي لهم أن يكونوا صفوفا، يستقبلون الإمام في الخطبة و يعتدلون خلفه في الصلاة.اهـ
و قال التوربشتي – كما في " مرقاة المفاتيح " (3/ 222) -: النهي يحتمل معنيين؛ أحدهما أن تلك الهيئة تخالف اجتماع المصلين. و الثاني أن الإجتماع للجمعة خطب جليل عن الأمر الذي ندبوا إليه. اهـ
قلت: و لا شك أن المعنى الأول هو المراد. لأن الحديث صريح في النهي عن " التحلق "، و رسول الله صلى الله عليه و سلم هو أفصح مَن نطق. و " التحلق " عند العرب هو الجلوس جماعات مستديرة. قال في " تاج العروس " (1/ 6264): تَحَلَّقوا: إِذا جَلَسُوا حَلْقَةً حَلْقَةً، منه الحَدِيثُ: " نهى عن التحلّق قَبْلَ الصَّلاة ". و في " لسان العرب " (10/ 58): الحِلَقُ - بكسر الحاء و فتح اللام - جمع الحَلْقة مثل قَصْعة و قِصَعٍ، و هي الجماعة من الناس مستديرون كحلْقة الباب و غيرها. و التَّحَلُّق تفَعُّل منها، و هو أَن يتَعمَّدوا ذلك. و تَحلَّق القومُ جلسوا حَلْقة حَلْقة.اهـ
قلت: نفهم مما سبق أن المراد من " التحلق " المنهي عنه في الحديث، هو التوزع في حلق كثيرة مبثوثة. و قد ورد ذلك صريحا، و هو بلفظ " النهي عن الحِلَقِ " - على الجمع -. و هذا أمر له نظائر في السنة، ففي " صحيح " مسلم (996) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: " ... ثم خرج علينا فرآنا حِلَقًا فقال: «ما لي أراكم عزين». قال: ثم خرج علينا فقال: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟». فقلنا: يا رسول الله و كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمون الصفوف الأول و يتراصون فى الصف».
قوله (عزين)؛ مفردها عزة و هي الجماعة المتفرقة و المراد ما لي أراكم أشتاتا متفرقين.
و كثرة الحِلَق وقت الصلاة - و إن كانت للمذاكرة، إلا أن يكون المسجد واسعا – يفسد نظم الصفوف و يشوش على سكينة المكان.
فالنهي في الحديث – على هذا الوجه - إنما هو عن هيئة الإجتماع، و ليس عن مضمونه، و هذا ظاهر.
ـ[عبدالوهاب مهية]ــــــــ[18 - 03 - 08, 11:14 ص]ـ
و على كلٍّ، فإن المعنى من الحديث معقول؛ و هو صيانة المساجد مما لم تُبنَ له و تنزيهها عما لا يليق بها. و لذلك قُرن التحلق - هنا - بالبيع و الشراء، و تناشد الأشعار، و نشدان الضالة. و هي أمور كلها تجتمع في كونها دنيوية، يحدث بتعاطيها اللغط و الإضطراب.
فنشدان الضالة: طلبها و السؤال عنها.
يقال: نشد الضالة أي نادى وسأل عنها و طلبها، و هو من النشد رفع الصوت، و الضالة تطلق على الذكر و الأنثى، و الجمع ضوال كدابة و دواب، و هي مختصة بالحيوان الضائع، و يقال لغير الحيوان ضائع و لقيط. اهـ
و في نشدانها إشغال للمصلين و إحواج بعضهم إلى الكلام بغير ذكر الله تعالى. و عادة ما ينجر وراء الموضوع من يسأل عن أوصاف الضالة، فيتعدى الأذى إلى باقي المصلين.
و أما تناشد الأشعار: فكما قال السندي في حاشيته على " ابن ماجة " (2/ 156):
و هو أن ينشد كل واحد صاحبه شعرا لنفسه أو غيره افتخارا أو مباهاة أو على وجه التفلة.
قلت: ينبغي أن نتنبه إلى أن لفظ الحديث في أكثر الروايات: النهي عن " تناشد " الأشعار، و معلوم أن ما كان على صيغة (تفاعل) فإنه يقتضي وقوع الفعل من أكثر من واحد. و هذا المعنى لا يتناول إنشاد الشعر من جهة واحدة كما وقع لحسان رضي الله عنه. فالمنهي عنه إنما هو (التناشد) و (الأشعار)، أي الإكثار منه حتى يغلب على غيره، وحتى يخشى منه كثرة اللغط و الشغب مما ينافي حرمة المساجد، و هذا غير إنشاد بعض القصائد.
و أما البيع و الشراء: فمفسدة تعاطيه في المسجد أظهر من أن تبيّن، و أقبح من أن يحذر منها. و لذلك ورد في صحيح مسلم (1002) عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ليلني منكم أولوا الأحلام و النهى ثم الذين يلونهم - ثلاثا - و إياكم و هيشات الأسواق»
قال الإمام البغوي (ج 18 / ص 376): هيشات الأسواق: ما يكون فيها من الجلبة و ارتفاع الأصوات و الفتن، من الهوش، و هو الإختلاط. اهـ
و قال الشيخ عبد المحسن عباد في " شرحه على سنن أبي داود " (1/ 2):
المقصود به: اللغط و الكلام الذي لا قيمة له مما يكون في الأسواق، وكذلك الكلام الذي لا يليق، فإن هذا هو المقصود بهيشات الأسواق، فيمنع ذلك في المساجد؛ لكون الأسواق فيها رفع للأصوات، و فيها اللغط، وفيها الكلام الذي لا ينبغي، و كل هذا مما تنزه و تصان عنه المساجد. اهـ
قلت: و على الرغم من استقباح تلك الخصال في المساجد – أعني نشد الضالة و إنشاد الشعر و البيع و الشراء - إلا أن الإختلاف في حكمها معتبر بين الأئمة.
¥