«انتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم- و هو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدرى ما دينه - قال -: فأقبل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و ترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى بكرسى حسبت قوائمه حديدا - قال -: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- و جعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها»
و قد ورد في إحدى الروايات بيان بعض ما علمه إياه؛ ففي " مسند الشهاب " للقضاعي (1138) و " السنن الكبرى " للبيهقي (ج 5/ ص 335):
" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يخطب فقلت: يا رسول الله علمني؟ فذكر الحديث، قال: وكان في آخر ما حفظت أن قال: إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا أبدلك الله به ما هو خير منه! "
قال النووي رحمه الله في " شرحه " على مسلم (6/ 165): وقعوده صلى الله عليه و سلم على الكرسي ليسمع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم. اهـ
و ترجم عليه الإمام ابن خزيمة في " صحيحه " (2/ 355) باب: إباحة قطع الخطبة ليعلم بعض الرعية.
و قال العلامة الأثيوبي في " ذخيرة العقبى " (16/ 261): ففيه قطع النبي صلى الله عليه و سلم خطبته لتعليم هذا الرجل، و هو قطع طويل، فالحق أن القطع للحاجة جائز، و لا يلزمه بذلك استئنافه، بل يستمر من حيث وصل.اهـ
قلت: الحديث هذا حديث عظيم، فيه فقه كبير، حيث أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكتف بتعليم السائل في خطبته، و كان ذلك أيسر من قطعها و إخلال نظمها، و كان بإمكانه أن يعلمه مكانه، و لكنه تجشم النزول من على المنبر، و أمر بكرسي فوضع مكانا من المسجد، ليعطي انطباعا أن تلك الوضعية غير التي كان عليها في المنبر.
فإذا كان هذا أثناء الخطبة، أليس من باب أولى مشروعية ذلك قبل الخطبة. و إذا كان هذا من أجل رجل واحد، أليس من باب أولى في حق أمة كثيرة من الناس يجهلون كل شيء تقريبا عن الدين. فهل من الحكمة ترك هؤلاء هملا و أنت تعلم من حالهم ما تخشى أن تحاسب عليه يوم القيامة؟ أم أنك تقتدي بنبيك محمد صلى الله عليه و سلم، فتأمر بكرسي فتجلس فيه فتعلمهم مما علمك الله؟
و الشيخ العثيمين – رحمه الله - نفسه علق على هذا الحديث في " شرحه " على " رياض الصالحين " فقال:
فإن قال قائل أليست المصلحة العامة أولى بالمراعاة من المصلحة الخاصة؟ و حاجة هذا الرجل خاصة، و هو صلى الله عليه وسلم يخطب في الجماعة؟ قلنا: نعم لو كانت مصلحة العامة تفوت لكان مراعاة المصلحة العامة أولى، لكن مصلحة العامة لا تفوت بل إنهم سيستفيدون مما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الغريب، و المصلحة العامة لا تفوت.
و هذا الغريب الذي جاء يسأل عن دينه إذا أقبل إليه الرسول عليه الصلاة والسلام و علمه كان فيه تأليف لقلبه على الإسلام، و محبة للإسلام، و محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من حكمة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.اهـ
و قال القرطبي في " المفهم " (7/ 144): إنما فعل ذلك لتعيُّنه عليه في الحال؛ و لخوف الفوت؛ و لأنه لا يناقض ما كان فيه من الخطبة، و مشيُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ و قربه منه في تلك الحال مبادرة لاغتنام الفرصة، و إظهار الهمم بشأن السائل. اهـ
تأمل كلام العلامة القرطبي - لله دره من فقيه - لتكتشف الخيط الرفيع الذي يفصل بين فهم السلف للنصوص و فهم غيرهم من المتأخرين. فقد استنبط من هذا الحديث ثلاث أحكام هي بمثابة الضوابط لما نحن بصدد بحثه، و هي:
- تعيّن المسؤولية على الإمام، تجاه من قصده للتعلم منه و الإستماع إليه. و قيام الحجة عليه بحيث لا يسعه تركه و لا رخصة له في إهماله.
- مراعاة خوف الفوات، و اهتبال المناسبات لتبليغ دين الله، إذ التفريط في تلك الفرص السوانح، تضييع للأمانة و تقصير في حق النصيحة. قال الآبي (3/ 30) في الحديث: فيه المبادرة للواجب، إذ لو تركه حتى يفرغ من الصلاة أمكن ان تخترمه المنية ... و كذلك إجابة السائل هي أيضا على الفور.اهـ
- بيان أن الدرس لا يناقض الخطبة و لا يؤثر فيها، و أنه قد لا تغني الخطبة عن الدرس مما يحتاج إلى بسط و بيان. قال القاضي عياض في " إكمال المعلم " (3/ 281): و فيه دليل أن مثل هذا كله من التعليم و الأوامر و النواهي في الخطب لا يقطعها و ليس بلغو فيها.اهـ قلت: قال الآبي: قوله " فأتمها " ظاهر في أنه لم يعدها. و هو كما قال، لأن الكل من ذكر الله الذي أمر بالسعي إليه.
و بهذا كان يأخذ العلامة ابن باديس – رحمه الله - و أصحابه من علماء الجزائر، حيث كانوا يعتبرون هذا المعنى، فيغتنمون تلك المناسبة التي يجتمع فيها الناس على كثرة مشاغلهم، لأداء ما فرض الله عليهم من واجب التبليغ و التبيين. و ليس كما يقول بعض، من أن ذلك كان بسبب الإحتلال. إذ لا تعلق للمسألة باحتلال و لا استقلال، و إنما هي من فقه الواقع، و تبصر العالم. و لأن مناط الأمر يدور حول أحوال الناس و ما يحدث لهم من مناسبات.
/
¥