الوجه الثاني: أنّ الآية بيان للوضوء الواجب لا المسنون فليس فيها شيء من سنن الوضوء.
والدلالة الثانية: أنّ مذهب العرب إذا ذكرت أشياء وعطفت بعضها على بعض تبتدئ الأقرب فالأقرب لا يخالفون ذلك إلاّ لمقصود.
فلمّا بدأ سبحانه بالوجه، ثمّ اليدين، ثمّ الرأس ثمّ الرجلين. دلّ على الأمر بالترتيب، وإلاّ لقال فاغسلوا وجوهكم وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أيديكم وأرجلكم.
أجيب أنّ هذا استدلال باطل، ووجه بطلانه أنّ الفاء وإن اقتضت الترتيب لكن المعطوف على ما دخلت عليه بالواو مع ما دخلت عليه كشيء واحد كما هو مقتضى الواو، فمعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء، فأفادت الفاء ترتيب غسل الأعضاء على القيام إلى الصلاة ترتيب بعضها على بعض. فإنّه لا شكّ أنّ السيّد لو قال لعبده إذا دخلت السوق فاشتر خبزًا وتمرًا لم يلزمه تقديم الخبز بل كيفما اشتراها كان ممتثلاً بشرط كون الشراء بعد دخول السوق. كما أنّه هنا يغسل الأعضاء بعد القيام إلى الصلاة.
الدلالة الثالثة: أنّ الله تعالى قال:?إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ? فعقب القيام بغسل الوجه بالفاء والفاء للترتيب إذ لا قائل بالترتيب في البعض.
أجيب: لا نسلّم أنّ الفاء للتعقيب وإنّما هي لجواب الشرط، وإنّما تكون للترتيب في العطف خاصّة.
2 ـ أمّا استدلالهم بالسنة:
فما رواه أنس رضي الله عنه قال: «دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم بِوَضُوءٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً مَرَّةً وَيَدَيْهِ مَرَّةً وَرِجْلَيْهِ مَرَّةً وَقَالَ هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ، ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ هَذَا وُضُوءٌ مَنْ تَوَضَّأَ ضَاعَفَ اللهُ لَهُ الأَجْرَ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلاَثًا قَالَ هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي».
ووجه دلالته على المطلوب واضح إذ توضّأ عليه الصلاة والسلام مرتّبًا وفعله مبيّن لما هو واجب.
أجيب أنّ الحديث لم يذكر فيه الترتيب صراحة فلا يؤخذ ذلك من قوله فيه: فغسل وجهه مرّة ويديه مرّة ورجليه مرّة لأنّ الواو لمطلق الجمع فلا تفيد الترتيب.
وقوله صلى الله عليه وسلَّم «هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ»، إنّما هو إشارة إلى الوضوء مرّة مرّة، كما أنّ الإشارة بذلك في الفقرتين الأخريين إنّما هو للوضوء مرّتين مرّتين؛ والوضوء ثلاثًا ثلاثًا فلا دلالة في الحديث على الترتيب ولا وجوبه.
كما استدلّوا أيضًا من السنة بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعة من الصحابة في صفة وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلَّم وكلّهم وصفوه مرتّبًا مع كثرتهم وكثرة المواطن التي رأوه فيها وكثرة اختلافهم في صفاته في مرّة ومرّتين وثلاثًا وغير ذلك، ولم يثبت فيه مع اختلاف أنواعه صفة مرتّبة وفعله صلى الله عليه وسلَّم بيان للوضوء المأمور به.
ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز كما ترك التَّكرار في أوقات.
أجيب أنّ حرف الواو للجمع المطلق، والجمع بصيغة الترتيب جمع مقيّد ولا يجوز تقييد المطلق إلاّ بدليل، وفعل النبيّ صلى الله عليه وسلَّم يمكن أن يحمل على موافقة الكتاب، وهو أنّه إنّما فعل ذلك لدخوله تحت الجمع المطلق حيث أنّه مرتّب وعلى هذا الوجه يكون عملاً بموافقة الكتاب. كمن أعتق رقبة مؤمنة في كفّارة اليمين، أو الظِّهار أنّه يجوز بالإجماع وهذا لا ينفي أن تكون الرقبة المطلقة مرادة من النصّ لأنّ جواز المؤمنة من حيث هي رقبة لا من حيث هي مؤمنة كذا هنا.
ولأنّ الأمر بالوضوء للتطهير وهو لا يتوقّف على الترتيب.
ـ وأيضًا ما جاء من حديث عبد خير عن عليّ فيه ذكر الترتيب صريحًا بحرف «ثمّ» الذي يفيد الترتيب والتعقيب وهو قوله صلى الله عليه وسلَّم: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ امْرِئٍ حَتىَّ يَضَعَ الطهورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَهُ».
ـ أجيب أنّه حديث ضعيف لا يتمّ الاحتجاج به. قال النووي في المجموع: «ضعيف غير معروف».
ـ كما استدلّ القائلون بالوجوب بما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه من فعله ثمّ يُسْنِد ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلَّم.
¥