(الحالة الثانية) أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب امامه مستقلا بتقرير اصوله بالدليل غير انه لا يتجاوز في ادلته اصول امامه وقواعده، وشرطه كونه عالما بالفقه واصوله وادلة الاحكام تفصيلا بصيرا بمسالك الاقيسة والمعاني تام الارتياض في التخريخ والاستنباط قيما بالحاق ما ليس منصوصا عليه لامامه باصوله، ولا يعرى عن شوب تقليد له لا خلافه ببعض أدوات المستقل بان يخل بالحديث أو العربية وكثيرا ما أخل بهما المقيد ثم يتخذ نصوص امامه أصولا يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص الشرع: وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه وعليها كان أئمة أصحابنا أو اكثرهم، والعامل بفتوي هذا مقلد لامامه لا له.
ثم ظاهر كلام الاصحاب ان من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية. قال أبو عمرو: ويظهر تأدى الفرض به في الفتوى وان لم يتأد في احياء العلوم التى منها استمداد الفتوى لانه قام مقام إمامه المستقل تفريعا على الصحيح وهو جواز تقليد الميت ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما تقدم، وله ان يفتى فيما لا نص فيه لامامه بما يخرجه على أصوله هذا هو الصحيح الذى عليه العمل واليه مفزع المفتين من مدد طويلة ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لامامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثى وما أكثر فوائده.
قال الشيخ ابو عمرو: وينبغى ان يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو اسحاق الشيرازي وغيره ان ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي والاصح انه لا ينسب إليه، ثم تارة يخرج من نص معين لامامه وتارة لا يجده فيخرج على أصوله بان يجد دليلا على شرط ما يحتج به إمامه فيفتى بموجبه فان نص امامه على شئ ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمى قولا مخرجا وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصيه فرقا فان وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما: ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق.
(قلت) وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق وقد ذكروه.
(الحالة الثالثة) ان لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بادلته قائم بتقريرها يصور ويحرر ويقرر ويمهد ويزيف ويرجح لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الاصول ونحوها من أدوانهم، وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج وأما فتاويهم فكانوا يتبسطون فيها تبسط اولئك أو قريبا منه ويقيسون غير المنقول عليه غير مقتصرين على القياس الجلى ومنهم من جمعت فتاويه ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه.
(الحالة الرابعة) ان يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص امامه وتفريع المجتهدين في مذهبه وما لا يجده منقولا ان وجد في المنقول معناه بحيث يدرك بغير كبير فكر انه لا فرق بينهما جاز الحاقه به والفتوى به، وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب وما ليس كذلك يجب امساكه عن الفتوى فيه ومثل هذا يقع نادرا في حق المذكور إذ يبعد كما قال امام الحرمين ان تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجة تحت ضابط: وشرطه كونه فقيه النفس ذا حظ وافر من الفقه. قال أبو عمرو: وان يكتفى في حفظ المذهب في هذه الحالة والتى قبلها بكون المعظم على ذهنه ويتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب.
قال الشيخ ابن عثيمين: هذه تفاصيل صعب تطبيقها في الوقت الحاضر، أكثر الناس الآن تجده يرى نفسه مجتهدا مستقلا أو مفتيا مستقلا ولا يوجد ولا في الحالة الرابعة. سددوا وقاربوا ص 172
قلت (أبو زكريا): فتأمل!!
فصل
هذه أصناف المفتين وهي خمسة وكل صنف منها يشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم، ولقد قطع امام الحرمين وغيره بأن الاصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى بمجرد ذلك، ولو وقعت له واقعة لزمه ان يسئل عنها ويلتحق به المتصرف النظار البحاث من أئمة الخلاف وفحول المناظرين لانه ليس أهلا لادراك حكم الواقعة استقلالا لقصور آلته ولا من مذهب امام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر.
فان قيل: من حفظ كتابا أو أكثر في المذهب وهو قاصر يتصف بصفة أحد ممن سبق ولم يجد العامي في بلده غيره هل له الرجوع إلى قوله؟
فالجواب: ان كان في غيره بلده مفت يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب امكانه فان تعذر ذكر مسألة للقاصر فان وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يقبل خبره نقل له حكمها بنصه وكان العامي فيها مقلدا صاحب المذهب، قال أبو عمرو: وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم والدليل يعضده: وان لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطور عنده وان اعتقده من قياس لا فارق فانه قد يتوهم ذلك في غير موضعه.
فان قيل هل لمقلد أن يفتى بما هو مقلد فيه؟
قلنا: قطع أبو عبد الله الحليمي وأبو محمد الجوينى وابو المحاسن الرويانى وغيرهم بتحريمه، وقال القفال المروزى: يجوز، قال أبو عمر: وقول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى امامه الذي قلده فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلا: مذهب الشافعي كذا أو نحو هذا، ومن ترك منهم الاضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح به، ولا بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوى في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز أن يفتى به ويجوز تقليده لانه وصل إلى علمه كوصول العالم.
والثانى: يجوز ان كان دليلها كتابا أو سنة ولا يجوز ان كان غيرهما.
والثالث: لا يجوز مطلقا، وهو الاصح، والله أعلم.
¥